الأول (١) ـ أنه لم يقتلهم ، لأنه لم يعلم حالهم سواه ، وقد اتفق العلماء عن (٢) [٧] بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه ، وإن اختلفوا في سائر الأحكام هل يحكم بعلمه أم لا؟
الثاني ـ أنه لم يقتلهم لمصلحة وتألّف القلوب عليه (٣) لئلا تنفر عنه. وقد أشار هو صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى ، فقال : أخاف أن يتحدّث الناس أنّ محمدا صلى عليه وسلم يقتل أصحابه.
الثالث ـ قال أصحاب الشافعى : إنما لم يقتلهم لأنّ الزنديق (٤) ـ وهو الذي يسرّ الكفر ويظهر الإيمان ـ يستتاب ولا يقتل.
وهذا وهم من علماء أصحابه ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستتبهم ، ولا يقول أحد إن استتابة الزنديق غير واجبة (٥). وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم معرضا عنهم ، مع علمه بهم ، فهذا المتأخّر من أصحاب الشافعى الذي قال : إن استتابة الزنديق جائزة ، قال ما لم يصحّ قولا واحدا.
وأما قول من قال إنه لم يقتلهم لأن الحاكم لا يقضى بعلمه في الحدود ، فقه قتل بالمجذّر ابن زياد ـ بعلمه ـ الحارث بن سويد بن الصامت ، لأن المجذّر قتل أباه سويدا يوم بعاث ، فأسلم الحارث ، وأغفله يوم أحد الحارث فقتله ، فأخبر به جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم فقتله به ؛ لأن قتله كان غيلة (٦) ، وقتل الغيلة حدّ من حدود الله عزّ وجلّ.
والصحيح أن النبىّ صلى الله عليه وسلم إنما أعرض عنهم تألّفا ومخافة من سوء المقالة الموجبة للتنفير ، كما سبق من قوله. وهذا كما كان يعطى الصدقة للمؤلّفة قلوبهم مع علمه بسوء اعتقادهم تألّفا لهم ، أجرى الله سبحانه أحكامه على الفائدة التي سنّها إمضاء لقضاياه (٧) بالسنة التي لا تبديل لها.
الآية الخامسة ـ قوله تعالى (٨) : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً).
__________________
(١) في ا : أحدها.
(٢) في م : على.
(٣) في ا : مصلحة ولتأليف القلوب عليه فلا.
(٤) الزنديق : هو الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان (ق).
(٥) في القرطبي : أن استتابة الزنديق واجبة
(٦) قتله غيلة : خدعه فقتله. والخبر في الإصابة : ٣ : ٣٤٣ ، والإكمال ٢ : ٢٤٢.
(٧) في م : وإمضاء للقدر بالسنة.
(٨) الآية الثانية والعشرون.