ولو بدّلوه بما لا يعطى معناه جدّا لم يجز ؛ فهذا أعظم في الباطن وهو الممنوع المذموم منهم. ويتعلّق بهذا المعنى نقل الحديث بغير لفظه إذا أدّى معناه (١). وقد اختلف الناس في ذلك ؛ فالمرويّ عن واثلة بن الأسقع جوازه ؛ قال : ليس كل ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ننقله إليكم بلفظه ؛ حسبكم المعنى.
وقد بيّناه في أصول الفقه ؛ وأذكر لكم فيه فصلا بديعا ؛ وهو أنّ هذا الخلاف إنما يكون في عصر الصحابة ومنهم ، وما من سواهم فلا يجوز لهم تبديل اللفظ بالمعنى ، وإن استوفى ذلك المعنى ؛ فإنّا لو جوّزناه لكلّ أحد لما كنّا على ثقة من الأخذ بالحديث ؛ إذ كلّ أحد إلى زماننا هذا قد بدّل ما نقل ، وجعل الحرف بدل الحرف فيما رواه ؛ فيكون خروجا من الإخبار بالجملة. والصحابة بخلاف ذلك ؛ فإنهم اجتمع فيهم أمران عظيمان :
أحدهما ـ الفصاحة والبلاغة ؛ إذ جبلّتهم عربية ، ولغتهم سليقة (٢).
والثاني ـ أنهم شاهدوا قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله ، فأفادتهم المشاهدة عقل المعنى جملة ، واستيفاء المقصد كله ؛ وليس من أخبر كمن عاين.
ألا تراهم يقولون في كل حديث : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا ، ولا يذكرون لفظه ، وكان ذلك خبرا صحيحا ونقلا لازما ؛ وهذا لا ينبغي أن يستريب فيه منصف لبيانه.
الآية الرابعة عشرة ـ قوله سبحانه (٣) : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ، قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؟ قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)
هذه الآية عظيمة الموقع ، مشكلة في النّظر ؛ لتعلّقها بالأصول ومن الفروع بالكلام في الدم ، وفي كل فصل إشكال ، [١٣] وذلك ينحصر في خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ في سبب ذلك : روى عن بنى إسرائيل أنه كان فيها من قتل رجلا غيلة (٤) بسبب مختلف فيه ؛ وطرحه بين قوم ، وكان قريبه ، فادّعى به عليهم ، وترافعوا إلى موسى عليه السّلام ، فقال له القاتل : قتل قريبي هذا هؤلاء القوم ، وقد وجدته بين أظهرهم،
__________________
(١) في م : إذا أدى إلى معناه. وفي هامش م هنا : مسألة في نقل الحديث بالمعنى.
(٢) في م : سلفية. سليقة : طبيعة.
(٣) الآية السابعة والستون.
(٤) قتله غيلة : خدعه فذهب به إلى موضع فقتله.