والحكمة في ذلك أنّ الاختلاف والتفرق المنهىّ عنه إنما هو المؤدّى إلى الفتنة والتعصّب وتشتيت الجماعة ؛ فأما الاختلاف في الفروع فهو من محاسن الشريعة. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم (١) : إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد. وروى أنّ له إن أصاب عشرة أجور.
المسألة الرابعة ـ قال بعض علمائنا قوله : (وَلا تَفَرَّقُوا) دليل على أنه لا يصلّى المفترض خلف المتنفّل ؛ لأنّ نيتهم قد تفرقت ، ولو كان هذا متعلقا تفرقا (٢) لما جازت صلاة المتنفّل خلف المفترض ؛ لأنّ النية أيضا قد تفرقت ؛ وفي الإجماع على جواز ذلك دليل على أنّ منزع الآية ما قدمناه لا ما تعلّق به هذا العالم.
الآية السابعة عشرة ـ قوله تعالى (٣) : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (أُمَّةً) ، كلمة ذكر لها علماء اللسان خمسة عشر معنى ، وقد رأيت من بلّغها إلى أربعين ، منها أنّ الأمة بمعنى الجماعة ، ومنها أنّ الأمّة الرجل الواحد الداعي إلى الحقّ.
المسألة الثانية ـ في هذه الآية وفي التي بعدها وهي قوله (٤) : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) دليل على أنّ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض كفاية ، ومن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر نصرة الدين بإقامة الحجّة على المخالفين ، وقد يكون فرض عين إذا عرف المرء من نفسه صلاحية النظر والاستقلال بالجدال ، أو عرف ذلك منه.
المسألة الثالثة ـ في مطلق قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) دليل على أنّ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض يقوم به المسلم ، وإن لم يكن عدلا ، خلافا للمبتدعة الذين يشترطون في الأمر بالمعروف والمنهي عن المنكر العدالة.
وقد بيّنا في كتب الأصول أنّ شروط الطاعات لا تثبت إلا بالأدلّة ، وكلّ أحد عليه
__________________
(١) صحيح مسلم : ١٣٤٢
(٢) هكذا في ا. وفي ل : ولو كان هذا متعلقا لما.
(٣) الآية الرابعة بعد المائة.
(٤) الآية العاشرة بعد المائة.