هذا تنبيه من الله تعالى لعباده على فضله ، وتعديد (١) لنعمه التي منها أن جعل البيت الحرام ـ للعرب عموما ولقريش خصوصا ـ مثابة للناس ؛ أى معادا في كل عام لا يخلو منهم ، يقال : ثاب إلى كذا ؛ أى رجع وعاد إليه.
فإن قيل : ليس كلّ من جاءه عاد إليه. قلنا : لا يختصّ ذلك بمن ورد عليه ، وإنما المعنى أنه لا يخلو من الجملة ، ولم يعدم قاصدا من الناس ؛ وكذلك جعله تبارك وتعالى أمنا يلقى الرجل فيه قاتل وليّه فلا يروّعه. وهذا كقوله تعالى (٢) : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) ، وكذلك (٣) : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ). وهذا لما كان الله تعالى قد ركّب في قلوبهم من تعظيم البقعة وتفضيل الموضع على غيره من الأرض المشابهة له في الصفة ، بهذه (٤) الخصّيصى المعظمة.
وقد سمعت أنّ الكلب الخارج من الحرم لا يروّع الصيد بها ، وهذا من آيات الله تعالى فيها ؛ وهذا اللفظ وإن كان ورد بالبيت فإنّ المراد به الحرم كلّه ؛ لأن الفائدة فيه كانت وعليه دامت.
وقد اختلف العلماء في تفسير الأمن على أربعة أقوال :
الأول ـ أنه أمن من عذاب الله تعالى في الآخرة ، والمعنى أنّ من دخله معظّما له ، وقصده محتسبا (٥) فيه لمن تقدّم إليه. ويعضده ما روى في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (٦) : من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه.
الثاني ـ معناه من دخله كان آمنا من التشفّى والانتقام ، كما كانت العرب تفعله فيمن أناب إليه من تركها لحقّ يكون لها عليه.
الثالث ـ أنه أمن من حدّ يقام عليه ، فلا يقتل به الكافر ، ولا يقتصّ فيه من القاتل ، ولا يقام الحدّ على المحصن والسارق ؛ قاله جماعة من فقهاء الأمصار ، ومنهم أبو حنيفة ، وسيأتى عليه الكلام.
الرابع ـ أنه أمن من القتال ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : إن الله حبس عن مكة الفيل [أو القتل] (٧) وسلّط عليها رسوله والمؤمنين ، لم تحل لأحد قبلي،
__________________
(١) في ا : وتقرير.
(٢) سورة آل عمران ، آية ٩٧.
(٣) سورة العنكبوت ، آية ٦٧
(٤) في ا : فهذه.
(٥) في ا : محسنا.
(٦) صحيح مسلم : ٩٨٣.
(٧) ليست في م.