فمن حمله على العموم قال : معناه ـ كما قدّمنا ـ مصلّى : مدعى أى موضعا للدعاء. ومن خصّصه قال : معناه موضعا للصلاة المعهودة ؛ وهو الصحيح ؛ ثبت من كلّ طريق أنّ عمر رضى الله عنه قال : وافقت ربي في ثلاث : قلت : يا رسول الله ؛ لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى ، فنزلت : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ....) (١) فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم طوافه مشى إلى المقام المعروف اليوم ، وقرأ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)) ـ وصلّى فيه ركعتين ، وبيّن بذلك أربعة أمور :
الأول ـ أن ذلك الموضع هو المقام المراد في الآية. الثاني ـ أنه بين الصلاة وأنها المتضمنة للركوع والسجود لا مطلق الدعاء. الثالث ـ أنه عرّف وقت الصلاة فيه وهو عقب الطواف ، وغيره من الأوقات مأخوذ من دليل آخر. الرابع ـ أنه أوضح أنّ ركعتي الطواف واجبتان ، فمن تركهما فعليه دم.
الآية الثانية والعشرون ـ قوله تعالى (٢) : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها)
قال علماؤنا : المراد بذلك اليهود ، عابوا على المسلمين رجوعهم إلى الكعبة عن بيت المقدس ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبّ أولا أن يتوجّه إلى بيت المقدس ، حتى إذا دانى اليهود في قبلتهم كان أقرب إلى إجابتهم ، فإنه عليه السلام كان حريصا على تأليف الكلمة وجمع الناس على الدين ، فقابلت اليهود هذه النعمة بالكفران ، فأعلمهم الله تعالى أنّ الجهات كلّها له ، وأن المقصود وجهه ، وامتثال أمره ، فحيثما أمر بالتوجّه إليه توجه إليه ؛ وصحّ ذلك فيه. وتمام الكلام في القسم الثاني ، وهو قريب من الذي تقدّم من قبل.
الآية الثالثة والعشرون ـ قوله [٢٣] تعالى (٣) : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً).
الوسط في اللغة ـ الخيار ، وهو العدل.
وقال بعضهم : هو من وسط الشيء ، وليس للوسط الذي هو بمعنى ملتقى الطرفين هاهنا دخول ؛ لأن هذه الأمة آخر الأمم ؛ وإنما أراد به الخيار العدل ، يدل عليه قوله تعالى بعده : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). فأنبأنا ربّنا تعالى
__________________
(١) الحديث بتمامه في القرطبي : ٢ ـ ١١٢
(٢) الآية الثانية والأربعون بعد المائة.
(٣) الآية الثالثة والأربعون بعد المائة.