وللآية تحقيق هو أنّ العالم إذا قصد الكتمان عصى ، وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أن معه غيره.
قال عثمان رضى الله عنه : لأحدثنّكم حديثا لولا آية في كتاب الله عزّ وجلّ ما حدثتكموه :
قال عروة : الآية (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ ...) الآية. قال أبو هريرة : إنّ الناس يقولون أكثر أبو هريرة ، وو الله لو لا آية في كتاب الله ما حدّثت شيئا ، ثم تلا هذه الآية.
وكان أبو بكر وعمر رضى الله عنهما لا يحدّثان بكل ما سمعا من النبي صلى الله عليه وسلم إلّا عند الحاجة إليه.
وكان الزبير أقلّهم حديثا مخافة أن يواقع الكذب ؛ ولكنهم رأوا أنّ العلم عمّ جميعهم فسيبلغ واحد إن ترك آخر.
فإن قيل : فالتبليغ فضيلة أو فرض ، فإن كان فرضا فكيف قصّر فيه هؤلاء الجلّة كأبى بكر ، وعمر ، والزبير ، وأمثالهم ، وإن كان فضيلة فلم قعدوا عنها؟
فالجواب أنّ من سئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية ؛ ولما روى أبو هريرة وعمرو بن العاص أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار.
وأما من لم يسأل فلا يلزمه التبليغ إلا في القرآن وحده. وقد قال سحنون : إن حديث [٢٨] أبى هريرة وعمرو هذا إنما جاء في الشهادة.
والصحيح عندي ما أشرنا إليه من أنه إن كان هناك من يبلّغ اكتفى به ، وإن تعيّن عليه لزمه ، وسكت الخلفاء عن الإشارة بالتبليغ ؛ لأنهم كانوا في المنصب من يردّ ما يسمع أو يمضيه مع علمهم بعموم التبليغ فيه ؛ حتى إن عمر كره كثرة التبليغ ، وسجن من كان يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وقد بينا تحقيقه في شرح الحديث الصحيح.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضيلة التبليغ أنه قال : نضّر (١) الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها. والله أعلم.
__________________
(١) يروى بالتخفيف والتشديد : أراد حسن خلفه وقدره.