يوجّه الإنسان بعيدا عن كل خلجات المشاعر ، ونبضات الأحاسيس ، ليربطه بالفكر الذي يتأمّل ويحلّل ويناقش ويستنتج ؛ كيف جاء الليل؟ وكيف أقبل النهار؟ وكيف تتحرك هذه الظاهرة الكونية في نظام مستمرٍّ دقيق لم ينحرف عن مساره بمقدار شعرة ، بالرغم من تقادم السنين ، فيشعر بالرهبة أمام هذا التدبير المحكم ، ويقوده ذلك إلى جاعل الظلمات والنور بالحكمة العميقة ، والإبداع العظيم ، وينطلق الإيمان بالله في فكره وقلبه وضميره ، كمثل الشعاع الذي يتدفق به النهار ، وكمثل السكينة الوادعة التي ينساب في روحانيتها هدوء الليل ... وهذا هو شأن الذين يفكرون ويتدبرون وينفتحون على كل ظواهر الحياة من خلال التجربة المتحركة اليقظة في كل ما يبصرون ويلمسون ويسمعون ، بحيث يتحول ذلك إلى فكر وعلم وإيمان .. وهم المؤمنون الذين لم ينطلق الإيمان في كيانهم من موقع التقليد الساذج الذي يحاكي فيه الأبناء الآباء ، بل من موقع المعاناة والجهد والحركيّة الإنسانية في خطوات الحياة.
أمّا الذين يغلقون أبصارهم عن النور ، وأسماعهم عن الهدى ، وتجربتهم عن الانفتاح ، فلا يمرّون بالأشياء التي من حولهم إلا كما يمرّ الأعمى الذي يحدّق في الظلام بعيون مظلمة باردة ، لا توحي له إلا بالمزيد من الظلام في تهاويل الأشباح. أمّا هؤلاء ، فإنهم لا يرون في حياتهم ، حتى أنفسهم .. لأنّهم إذا أبصروا أنفسهم أبصروا ربّهم ، بعين بصيرتهم ، بل كل ما يعرفونه من أنفسهم هو حاجاتهم الحسّية ، لذا فإنهم لا يؤمنون بالله ، بل بما يصنعونه من شركاء يغذّون فيهم جانب الحسّ ، ويشغلونهم عن التفكير بما وراء الأشياء ، بالاندفاع إلى اللذة التي تحملها ظواهرها.
وقد أثار البعض الحديث عن مسألة مخلوقيّة الظلمة ، وهي عنوان عدمي ، لأنها تعبر عن عدم النور فكيف يكون العدم مخلوقا. ولكن نرى أنه ليس لهذا الكلام موقع للإشكال ، فإن المقصود ـ في التعبير البلاغي ـ أن