عليّ : ليس مذهب ابن عيينة بالقوي ، لأنهنّ لو بلغن ما بلغن ، لم تجز شهادتهن إلا أن يكون معهنّ رجل ، ولأن الضلال هاهنا : النّسيان ، فينبغي أن يقابل بما يعادله ، وهو التّذكير.
قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) ، قال قتادة : كان الرجل يطوف في الحواء (١) العظيم ، فيه القوم فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه منهم أحد ، فنزلت هذه الآية. وإلى ما ذا يكون هذا الدّعاء؟ فيه ثلاثة أقوال : أحدها : إلى تحمّل الشهادة ، وإثباتها في الكتاب ، قاله ابن عباس ، وعطيّة ، وقتادة ، والرّبيع. والثاني : إلى إقامتها وأدائها عند الحكّام بعد أن تقدّمت شهادتهم بها ، قاله سعيد بن جبير ، وطاوس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، والشّعبيّ ، وأبو مجلز ، والضحّاك ، وابن زيد ، ورواه الميمونيّ عن أحمد بن حنبل. والثالث : إلى تحمّلها وإلى أدائها ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، واختاره الزجّاج ، قال القاضي أبو يعلى : إنما يلزم الشاهد أن لا يأبى إذا دعي لإقامة الشهادة إذا لم يوجد من يشهد غيره ، فأما إن كان قد تحمّلها جماعة ، لم تتعيّن عليه ، وكذلك في حال تحمّلها ، لأنه فرض على الكفاية كالجهاد ، فلا يجوز لجميع الناس الامتناع منه.
قوله تعالى : (وَلا تَسْئَمُوا) ، أي : لا تملّوا ولا تضجروا أن تكتبوا القليل والكثير الذي قد جرت العادة بتأجيله إلى أجله ، أي : إلى محلّ أجله (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) ، أي : أعدل ، (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) لأن الكتاب يذكّر الشهود جميع ما شهدوا عليه (وَأَدْنى) أي : أقرب (أَلَّا تَرْتابُوا) أي : لا تشكّوا (إِلَّا أَنْ تَكُونَ) الأموال (تِجارَةً) أي : إلا أن تقع تجارة. وقرأ عاصم «تجارة» بالنصب على معنى : إلا أن تكون الأموال تجارة حاضرة ، وهي البيوع التي يستحق كل واحد منهما على صاحبه تسليم ما عقد عليه من جهته بلا تأجيل. فأباح ترك الكتاب فيها توسعة ، لئلا يضيق عليهم أمر تبايعهم في مأكول ومشروب. قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) ، الإشهاد مندوب إليه فيما جرت العادة بالإشهاد عليه.
فصل : وهذه الآية تتضمّن الأمر بإثبات الدّين في كتاب ، وإثبات شهادة في البيع والدّين. واختلف العلماء ، هل هذا أمر وجوب (٢) ، أم على وجه الاستحباب؟ فذهب الجمهور إلى أنه أمر ندب واستحباب ، فعلى هذا هو محكم ، وذهبت طائفة إلى أن الكتابة والإشهاد واجبان ، روي عن ابن عمر وأبي موسى ومجاهد وابن سيرين وعطاء والضحّاك وأبي قلابة والحكم وابن زيد. ثم اختلف هؤلاء ، هل هذا الحكم باق أم منسوخ؟ فذهب أكثرهم إلى أنه محكم غير منسوخ ، وذهبت طائفة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ).
قوله تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) ، قرأ أبو جعفر بتخفيف الراء من «يضار» وسكونها. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : أن معناه : لا يضارّ بأن يدعى وهو مشغول ، هذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسّدّيّ ، والرّبيع بن أنس ، والفرّاء ، ومقاتل. وقال الرّبيع : كان أحدهم
__________________
(١) في «اللسان» : الحواء : جماعة بيوت الناس إذا تدانت ، والجمع الأحوية.
(٢) قال الحافظ ابن كثير ١ / ٣٣٦ عند هذه الآية ؛ وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب لا على الوجوب.