اجتمعوا على رجل منهم ، اسمه فنحاص ، فقال له أبو بكر : اتّق الله وأسلم ، فو الله إنك لتعلم أن محمّدا رسول الله. فقال : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر. وإنّه إلينا لفقير ، ولو كان غنيّا عنّا ما استقرضنا. فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة ، وقال : والله لو لا العهد الذي بيننا لضربت عنقك. فذهب فنحاص يشكو إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وأخبره أبو بكر بما قال ، فجحد فنحاص ، فنزلت هذه الآية ، ونزل فيما بلغ من أبي بكر من الغضب (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) (١) ، هذا قول ابن عباس ، وإلى نحوه ذهب مجاهد ، وعكرمة والسّدّيّ ، ومقاتل.
والثاني : أنه لمّا نزل قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً*) (٢) قالت اليهود : إنّما يستقرض الفقير من الغنيّ ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول الحسن ، وقتادة.
وفي الذين قالوا : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) ، أربعة أقوال : أحدها : أنه فنحاص بن عازوراء اليهوديّ ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : حييّ بن أخطب ، قاله الحسن وقتادة. والثالث : أن جماعة من اليهود قالوه. قال مجاهد : صكّ أبو بكر رجلا من الذين قالوا : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) لم يستقرضنا وهو غنيّ؟! والرابع : أنه النبّاش بن عمرو اليهوديّ ، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ.
قوله تعالى : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) قرأ حمزة وحده : «سيكتب» بياء مضمومة و «قتلهم» بالرّفع و «يقول» بالياء ، وقرأ الباقون : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) بالنّون ، و (وَقَتْلَهُمُ) بالنّصب و «نقول» بالنون ، وقرأ ابن مسعود «ويقال» وقرأ الأعمش وطلحة : «ويقول».
وفي معنى (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) قولان : أحدهما : سنحفظ عليهم ما قالوا ، قاله ابن عباس. والثاني : سنأمر الحفظة بكتابته ، قاله مقاتل.
قوله تعالى : (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ) أي : ونكتب ذلك. فإن قيل : هذا القائل لم يقتل نبيّا قطّ! فالجواب : أنه رضي بفعل متقدّميه لذلك ، كما بيّنا في قوله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ). قال الزجّاج : ومعنى (عَذابَ الْحَرِيقِ) : عذاب محرق ، أي : عذاب بالنّار ، لأن العذاب قد يكون بغير النّار.
(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢))
قوله تعالى : (ذلِكَ) إشارة إلى العذاب ، والذي قدّمت أيديهم : الكفر والخطايا.
(الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣))
____________________________________
من حديث ابن عباس ، وفي إسناده محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، وهو مجهول. وأخرجه الطبري ٨٣٠٢ عن السدي مرسلا ، باختصار ، و ٨٣١٦ عن عكرمة ، مرسلا فهذه الروايات تتأيد بمجموعها ، ويعلم أن له أصلا ، والله أعلم.
__________________
(١) آل عمران : ١٨٦.
(٢) البقرة : ٢٤٥.