وحرفوه عن وجهه إلى الوجه الذي يريدون .. وقد نعى الله ذلك عليهم بقوله سبحانه : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٥٨ : البقرة).
فالذى يمسك به اليهود من التوراة هو بعض التوراة ، لا التوراة .. وفى التعبير بلفظ (أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) بدلا من «آتيناهم الكتاب» إبعاد لهم عن هذا المقام الكريم ، مقام الخطاب من الله رب العالمين ، لأنهم ـ وقد فعلوا ما فعلوا من منكرات ـ ليسوا أهلا لأن يوجّه إليهم خطاب من الله رب العالمين .. فوجّه إليهم الخطاب مجهول الجهة التي تخاطبهم ، حتى لكأنهم فى مواجهة الوجود كلّه ، يطلع عليهم من كل أفق منه من يستنكر ما هم فيه من ضلال ، ويحمّق موقفهم من رسل الله وكتبه .. (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ). فكأنّ ألسنة الخلق كلّها تتنادى مشيرة إلى هذا الضلال والسّفه الذي يركب هؤلاء الحمقى السفهاء من الناس ، إذ يشترون الضلالة بالهدى ، والباطل بالحق ، والشر بالخير .. (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) (٢٨ : إبراهيم)
وفى قوله تعالى : (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) خطاب للمسلمين ، بعد أن كان الخطاب موجها إلى النبىّ الكريم ، وفى هذا ، تكريم للنبىّ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ورفع لمقامه الكريم ، من أن يكون لهؤلاء الضالين ، ومفترياتهم ، أثر فى سلامة دينه ، وصحة معتقدة ، ووثاقة إيمانه بربّه ، وإن كان فى ذلك ما يخشى منه على المسلمين ، فى التشويش عليهم ، والوسوسة بالباطل لهم.