وهذا ، مخالف لصريح آيات القرآن الكريم ، التي تحدثت في أكثر من موضع عن حياة موسى وبني إسرائيل في الصحراء ، وتيههم في الصحراء أربعين سنة ، بعد أن أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة ، فأبوا ، وخافوا أن يدخلوها على أهلها ، وقالوا : (يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) (٢٢ : المائدة) وقالوا (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (٢٤ : المائدة).
ثم كيف يكون مع بني إسرائيل من المشاعر ما يلفتهم إلى مصر مرة أخرى ، وقد لبسهم فيها الذل والهوان ، وسكن إلى كيانهم الرعب والفزع؟ ذلك بعيد بعيد!! وهل إذا غرق فرعون وجنوده .. هل خلت مصر من أهلها؟ وهل خلت البلاد من الجنود؟
ثم إن التاريخ يؤيد هذا ، ويشهد بصدق القرآن الكريم ، وأنه لم تكن لبني إسرائيل عودة إلى مصر ، بعد أن خرجوا منها فارين مذعورين ..
ـ أما قوله تعالى : (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) فهو ـ والله أعلم ـ ما كان من نقم الله التي حلّت بفرعون وملائه .. من جدب ، ونقص في الثمرات ، ومن طوفان ، وجراد وفمّل .. فهذه النقم قد سلبت القوم ما كان في أيديهم من نعم ، فأحالت الخصب جدبا ، والنعيم والرفه بلاء وكربا .. وبهذا كان خروجهم مما كانوا فيه من جنات وعيون ، وكنوز ومقام كريم .. على حين أن بني إسرائيل لم يمسهم شىء من هذا البلاء ، وهم يعايشون المصريين ، ويحيون معهم ، فكأنهم بهذا ، قد ورثوا ما كان في أيدى المصريين ، من هذه النعم والكنوز! إذ كانوا هم الذين يأخذون بحظّهم منها ، على حين حرمها فرعون والملأ الذين معه ..
ولهذا جاء ذكر خروج بني إسرائيل من مصر بعد هذا الميراث لا قبله ، كما ترى ذلك في قوله تعالى بعد هذا :