بقرون طويلة. قال تعالى في سورة النساء : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) (اليهود) (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) وقال في سورة الأنعام : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ (١) ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) الآية.
ولما طولبوا بالإتيان بالتوراة وقراءتها بهتوا ولم يفعلوا فقامت الحجة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم عليهم. وقوله تعالى : فمن افترى على الله الكذب بعد قيام الحجة بأن الله تعالى لم يحرم على إبراهيم ولا على بني إسرائيل شيئا من الطعام والشراب إلا بعد نزول التوراة باستثناء ما حرم إسرائيل على نفسه من لحمان الإبل وألبانها ، فأولئك هم الظالمون بكذبهم على الله تعالى وعلى الناس. ومن هنا أمر الله تعالى رسوله أن يقول : صدق الله فيما أخبر به رسوله ويخبره به وهو الحق من الله ، إذا فاتبعوا يا معشر اليهود ملة إبراهيم الحنيف الذي لم يكن أبدا من المشركين.
هذا ما تضمنته الآيات الثلاث : ٩٣ ـ ٩٤ ـ ٩٥ وأما قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ (٢) وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) فإنه متضمن الرّد (٣) على اليهود الذين قالوا إن بيت المقدس هي أول قبلة شرع للناس استقبالها فلم يعدل محمد وأصحابه عنها إلى استقبال الكعبة؟ وهي متأخرة الوجود فأخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس هو الكعبة لا بيت المقدس وأنه جعله مباركا يدوم بدوام الدنيا والبركة لا تفارقه فكل من يلتمسها بزيارته وحجه والطواف به يجدها ويحظى بها ، كما جعله هدى للعالمين فالمؤمنون يأتون حجاجا وعمارا فتحصل لهم بذلك أنواع من الهداية ، والمصلون في مشارق الأرض ومغاربها يستقبلونه في صلاتهم ، وفي ذلك من الهداية للحصول على الثواب وذكر الله والتقرب إليه أكبر هداية وقوله تعالى فيه آيات بينات يريد : في المسجد الحرام دلائل واضحات منها مقام إبراهيم وهو الحجر الذي كان يقوم عليه أثناء بناء البيت حيث بقي أثر قدميه عليه مع أنه صخرة من الصخور ومنها زمزم والحجر والصفا والمروة وسائر المشاعر كلها آيات ومنها الأمن التام لمن دخله فلا
__________________
(١) راجع تفسير هذه الآية في موضعها من سورة الأنعام.
(٢) أخرج مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن أول مسجد وضع في الأرض قال : «المسجد الحرام قلت ثم أيّ قال المسجد الأقصى قلت كم بينهما قال ، أربعون عاما ثم جعلت الأرض لك مسجدا فحيثما أدركتك الصلاة فصل».
(٣) ذكر القرطبي عن مجاهد قوله تفاخر المسلمون واليهود فقالت اليهود : بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنها مهاجر الأنبياء في الأرض المقدسة ، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل فأنزل الله تعالى هذه الآية (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) الآية