نوح عليهالسلام والذين معه في السفينة (وَاسْتَوَتْ) استقرّت السفينة (عَلَى الْجُودِيِ) وهو جبل معروف بناحية آمد على قول الزجّاج وقرب جزيرة الموصل في قول غيره (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي قال الملائكة أو نوح (ع) وجماعته النّاجون قالوا : أبعد الله الظالمين من رحمته وهلكوا بنقمته وذلك بما كسبت أيديهم. وقد انتصب (بُعْداً) على المصدر وفيه معنى الدعاء عليهم. وعن أبي الحسن الرضا عليهالسلام قال : كان نوح لبث في السفينة ما شاء الله وكانت مأمورة ، فخلّى سبيلها فأوحى الله إلى الجبال أني واضع سفينة نوح على جبل منكنّ فتطاولت الجبال وشمخت ، وتواضع الجوديّ وهو جبل بالموصل ، فضرب جؤجؤ السفينة (أي مقدمها) الجبل فقال نوح عند ذلك : يا ماريا اتقن ، وهو بالعربية : يا ربّ أصلح ، وفي رواية ثانية : يا رهمان أتقن ، أي : يا ربّ أحسن.
وغير خاف أن هذه الآية تحتوي من البلاغة والفصاحة وجميل السبك ودقيق التصوير وحسن التعبير ما لا يدانيه كلام أحد من الناس. وقد حملت من ائتلاف الألفاظ في أمرين سماويّين صدرا للأرض والسماء يدلّان على القدرة الإلهية التي تأمر الجماد كما تأمر الأحياء ، وفيها من دقيق المعنى في إكمال صورة إيقاف الطوفان والذهاب بآثاره ما يعجز عن الإتيان بمثله أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء حتى أن كفار قريش الذين كانوا يريدون معارضة القرآن ويعكفون على تقليده واجتمعوا يأكلون لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر مدة أربعين يوما ، قد وقفوا مشدوهين عند سماع هذه الآية وقال بعضهم لبعض : هذا كلام لا يشبهه شيء من الكلام ولا يشبه كلام المخلوقين وانصرفوا عن فكرتهم السخيفة فاشلين.
* * *
(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥)