فهذا كلّه يوجب أن تكون هذه الواقعة في ظرف وعالم غير عالم الدنيا ، ويكون فيه ذرّيّة بني آدم مجتمعة وجودا وهم أحياء عقلاء ، فلو أخذوا مؤاخذة يوم القيامة توجّه على جميعهم ، ولو وقع منهم شرك كان ذلك فعلا للمتبوع دون التابع ، ويتفرّع على ذلك الأمر في الدنيا.
توضيح ذلك : أنّ الكلام يدلّ على أنّ هلاك المشركين يوم القيامة يدور مدار صحة إحدى الحجّتين وبطلانهما ، وقد أبطل الله سبحانه الحجّتين بهذا الأخذ والإشهاد ، فلكون كلّ واحد (١) من بني آدم موجودا بوجود مستقلّ غير تابع لم يصح أن يحتجّ الذرّيّة في هلاكهم على الله سبحانه بانّا لم نكن موجودين مستقلين في الوجود ، بل كنّا موجودين بتبع وجود آبائنا وهم كانوا موجودين مستقلين والشرك فعلهم لا فعلنا ، إذ الفعل لفاعله المستقل بالوجود لا لما يوجد بتبع وجود الفاعل ، ولكونهم شاهدين للربوبيّة لم يصحّ أن يقولوا : إنّا وإن كنّا موجودين مستقلين ، لكنّا غافلون ولا يصحّ مؤاخذة الغافل وإهلاكه.
ولازم ذلك أن لو لم يتحقق ذلك الأخذ والإشهاد كانوا جميعا موجودين بوجود جامع غير مفرّق بحيث يوجد كلّ ذرّيّة بتبع وجود أبيه ، لكنّهم أحياء عقلاء غافلون عن الربوبيّة ، فلمكان تبعية وجودهم كان الشرك لمتبوعهم ، ولمكان عدم المشاهدة كانوا غافلين لا يصحّ إهلاكهم.
وحيث كان هذا النحو من الوجود غير متحقّق في الدنيا فهو في عالم آخر قبل الدنيا ، كان نفوس بني آدم وأرواحهم موجودين فيه بوجود جامع كل ذرّيّة بتبع وجود متبوعه ، ثم فرّق الله بينهم بعد ذلك الإتصال : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى
__________________
(١). في نسخة : «نفس» ، «منه ـ رحمهالله ـ».