أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) ، ليصح إهلاك المشرك به يوم القيامة ، وإنّما استقلّ كلّ من بني آدم بالنفس في الدنيا واضطرّوا إلى التوحيد بالفطرة من هناك ، فالسعادة والشقاء يوم القيامة يتفرّع على ذلك إليوم فقد رجع آخر الأمر إلى أوّله.
فالآيتان من سنخ الآيات المبيّنة لأصل الشقاء والسعادة الكاشفة عن عود الأمر إلى ما بدء منه كقوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ* فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) (١) ، وقد مرّ الكلام فيها ، وقوله سبحانه : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) (٢) ، وقوله سبحانه : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً* لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) (٣).
وسيجيء إشارة إلى وجه دلالتهما عند نقل الروايات.
وبالجملة ، فهذا هو الذي تدلّ عليه هاتان الآيتان ، لا ما فسّرهما به المفسّرون بما عرفت من البيان ، أن المراد بالآيتين أنّ الله سبحانه أخرج بني آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام أمّهاتهم ومنها إلى الدنيا وأشهدهم في الدنيا على أنفسهم وأراهم آثار صنعه ودلائل توحيده ووجوه احتياجاتهم المستغرقة لهم الدالة على وجوده ووحدته ، فكأنّه قال لهم عند ذلك : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) ، وإنّما فعل ذلك كلّه لئلا يقولوا يوم القيامة : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) ، (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) ، فتبعناهم ونشأنا على شركهم من غير ذنب.
__________________
(١). الأعراف (٧) : ٢٩ ـ ٣٠.
(٢). الأعراف (٧) : ١٠١.
(٣). الأحزاب (٣٣) : ٧ ـ ٨.