وبالتأمل في هذه الأمثلة ونظائرها يعلم أنّ من الغيب ما يمكن أن يكون شهادة ، كمن يحجبه جدران الحائط عمّا وراءه فيشرف فيشاهد ما كان محجوبا غائبا عنه ، أو يستدل بالآثار فيعلم ما كان مجهولا ، كما يستدل على ما في قلب زيد من الآثار البادية أنّه مسرور أو مغموم.
ومنه ما لا يمكن أن يكون شهادة كاللون والصور يحسه البصر ولا يناله السمع ، وإن استدلّ على بعض لوازمه كالإلتذاذ والتأثير ، كما في قوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (١) ، وقوله : (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) (٢) فإنّ العلم من طريق الإستدلال أو بواسطة إخبار النبي ـ صلىاللهعليهوآله ـ كان موجودا عندهم ، وقد عدّ إيمانهم مع ذلك إيمانا بالغيب ، فالغيب باق على ما هو عليه وإن كان معلوما من بعض وجوهه ، فالإدراك المتعلّق بالغائب من جهة الإستدلال بآثاره لا يسمّى علما بالغيب إلّا مسامحة.
ومن جهة أخرى العلم من جهة مطلق الإستدلال ربّما أصاب وربما أخطأ ، ومع احتمال الخطأ لا علم ، بل هو ظن وحسبان. إنّما يكون علما ، ثمّ علما بالغيب إذا كان مأمونا مصونا من الخطأ ، كما يستفاد من قوله سبحانه : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (٣) فإنّ الإرصاد من جوانب الرسول ، أو الخبر الذي أخبر هو إنّما به يتحقق العلم ولا يمسّ الشياطين شيئا من الوحي بالخلط والدسّ.
ومن الشاهد على ذلك قوله سبحانه : في ذيل قصة يوسف : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
__________________
(١). البقرة (٢) : ٣.
(٢). يس (٣٦) : ١١.
(٣). الجن (٧٢) : ٢٦ ـ ٢٧.