أقول : وهذه استفادة لطيفة من الآية فإنّ هذه ـ الآية ـ أعني قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) واقعة في خلال آيات العذاب الّتي توعد هذه الأمّة بإرسال العذاب ، وإنفاذ القضاء الفصل بين النبيّ ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ وبينهم ، وفيها استئصالهم بالانقطاع عن الحياة الدنيويّة ومزايا نعمها ، وهلاك أرواحهم بإضلال الله ـ سبحانه ـ إيّاهم عن صراط الهداية وسبيل الفلاح ، فلمّا نفى ـ سبحانه ـ عن نفسه في هذا المقام أنّه لا يظلم الناس شيئا ، دلّ ذلك على أنّ حرمان الشخص من الإنسان أو أمّة من الأمم الإنسانيّة عن شيء من النعم الظاهرة الجسمانيّة أو الباطنة الروحيّة لا يستند إليه تعالى ، بل إنّما يستند إلى نفسه كما مرّ بيانه في قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (١).
وتحصّلت من هاهنا قاعدة كلية وهي أنّ الله سبحانه لا يفيض عنه إلّا الخير ، وأمّا الشّر كائنا ما كان فهو لقصور المستفيض القابل ، وردّه وعدم قبوله لعوائد الفضل ورشحات الجود.
فإن قلت : الأمر لا يتمّ بما ذكرت فما المانع من أن نقول : إنّ الله يفيض خيرا وشرا ورضا وغضبا وهداية وإضلالا لكنّه يخصّ كلّا من الخير والشرّ بواحد من الفريقين فيرسل الخير والرضا والهداية بأهل الصلاح ، والشر والسخط والإضلال بأهل الفسوق والفساد.
قلت : يأبى عن ذلك ظاهر الآية فإنّها تدلّ على أنّ أمثال هذه البلاياء والنقمات ظلم ، غير أنّها لا تستند إليه تعالى بل إلى أنفسهم ، فهم يعملون أعمالا
__________________
(١). النساء (٤) : ٧٩.