(ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) يشهدون عليهن بما رموهن به ، وفى كلمة «ثم» ؛ إشارة إلى جواز تأخير الإتيان بالشهود ، كما أن فى كلمة «لم» : تحقق الإتيان بهم. وشروط إحصان القذف : الحرية ، والعقل ، والبلوغ ، والإسلام ، والعفة عن الزنا ، فإن توفرت الشروط (فَاجْلِدُوهُمْ) أي : القاذفين (ثَمانِينَ جَلْدَةً) ؛ لظهور كذبهم وافترائهم ؛ لقوله تعالى : (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١) ، وتخصيص رميهن بهذا الحكم ، مع أن رمى المحصنين أيضا كذلك ؛ لخصوص الواقعة ، وشيوع الرمي فيهن. والحدود كلها تشطر بالرق ، فعلى العبد فى الزنا خمسون ، وفى القذف أربعون.
(وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ) بعد ذلك (شَهادَةً أَبَداً) ؛ زجرا لهم ؛ لأن رد شهادتهم مؤلم لقلبهم ، كما أن الجلد مؤلم لبدنهم. وقد آذى المقذوف بلسانه ، فعوقب بإهدار شهادته ، جزاء وفاقا. والمعنى : ولا تقبلوا منهم شهادة من الشهادات ، حال كونها حاصلة لهم عند الرمي ، أبدا ، مدة حياتهم ، فالرد من تتمة الحدّ ، كأنه قيل : فاجلدوهم وردوا شهادتهم ، أي : فاجمعوا لهم بين الجلد والرد. (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ، كلام مستأنف غير داخل فى جزاء الشرط ؛ لأنه حكاية حال الرامي عند الله تعالى بعد انقضاء الجزاء ، وما فى اسم الإشارة من معنى البعد ؛ للإيذان ببعد منزلتهم فى الشر والفساد ، أي : أولئك هم المحكوم عليهم بالفسق ، والخروج عن الطاعة ، والتجاوز عن الحد ، فإنهم المستحقون لإطلاق اسم الفاسق عليهم ، دون غيرهم.
(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) القذف ، (وَأَصْلَحُوا) أحوالهم ، فهو استثناء من الفاسقين ، بدليل قوله : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : يغفر ذنوبهم ويرحمهم ، ولا ينظمهم فى سلك الفاسقين. فعلى هذا لا تقبل شهادته مطلقا فيما حدّ فيه وفى غيره ؛ لأن رد شهادته وصلت بالأبد ، وأما توبته فإنما تنفعه فيما بينه وبين الله ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، وهو قول ابن عباس وشريح والنخعي. وقيل : الاستثناء راجع لقوله : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً) ، فإذا تاب وأصلح قبلت شهادته مطلقا ؛ لأنه زال عنه اسم الفسق ، والأبد عبارة عن مدة كونه فاسقا ، فينتهى بالتوبة ، وبه قال الشافعي وأصحابه ، وهو قول الشعبي ومسروق وابن جبير وعطاء وسليمان بن يسار. وفصّل مالك ، فقال : لا تجوز فيما حدّ فيه ، ولو تاب ، وتجوز فيما سواه ، وكأنه جمع بين القولين. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الغض عن مساوئ الناس من أفضل القرب ، وهو من شيم ذوى الألباب ، وبه السلامة من الهلاك والعطب ، والتعرض لمساوئهم من أعظم الذنوب ، وأقبح العيوب ، ولله در القائل :
__________________
(١) من الآية ١٣ من سورة النور.