قال ابن جزىّ : إن قيل : كيف قال أولا : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) ، ثم قال آخرا : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)؟ فالجواب : أنه لاين أولا ؛ طمعا فى إيمانهم ، فلما رأى منهم العناد والمغالطة وبخهم بقوله : «إن كنتم تعقلون» ، وجعل ذلك فى مقابلة قول فرعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ). ه.
ولما تجبر فرعون وبهت (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) ، أي : لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم فى سجونى ، وكان من عادته أن يأخذ من يرى سجنه ، فيطرحه فى هوّة ذاهبة فى الأرض ، بعيدة العمق ، فردا ، لا ينظر فيها ولا يسمع ، وكان ذلك أشدّ من القتل. ولو قال : لأسجننك ، لم يؤد هذا المعنى ، وإن كان أخصر. قاله النسفي.
الإشارة : التربية لها حق يراعى ويجب شكرها ، ولا فرق بين تربية البشرية والروحانية. قال القشيري : لم يجحد موسى حقّ التربية والإحسان إليه فى الظاهر ، ولكن بيّن أنه إذا أمر الله بشىء وجب اتباع أمره ، وإذا كانت تربية المخلوقين توجب حقا ، فتربية الله أولى بأن يعظّم العبد قدرها. ه. فكل من أحسن إلى بشريتك بشىء وجب عليك شكره ؛ بالإحسان إليه ، ولو بالدعاء ، وكل من أحسن إلى روحانيتك ؛ بالعلم أو بالمعرفة ، وجب عليك خدمته وتعظيمه ، وإنكار ذلك سبب المقت والطرد ، والعياذ بالله.
وقول فرعون : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) : سؤال عن حقيقة الذات ، ومعرفة الكنه متعذرة ؛ إذ ليس كمثله شىء ، وأقرب ما يجاب به قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) (١) فهذه الأسماء الأربعة أحاطت بالذات فى الجملة ، ولم تترك منها شيئا ، والإحاطة بالكنه متعذرة ، ولو وقعت الإحاطة لم يبق للعارفين ترق ، مع أن ترقيهم فى كشوفات الذات لا ينقطع أبدا ، فى هذه الدار الفانية ، وفى تلك الدار الباقية. وبالله التوفيق.
ثم ذكر معجزة العصا وما يتبعها ، فقال :
(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣))
قلت : (لو) : هنا ، ليست امتناعية ، بل إغيائية ، فلا جواب لها ، أي : تفعل بي هذا على كل حال ولو جئتك بشىء مبين.
__________________
(١) من الآية ٣ من سورة الحديد.