يقول الحق جل جلاله : (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ) من يده ، (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) أي : تبتلع بسرعة (ما يَأْفِكُونَ) : ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم ، ويزورونه ، فيخيّلون فى حبالهم وعصيّهم أنها حيات تسعى ، (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) لما شاهدوا ذلك من غير تلعثم ولا تردد ، غير متمالكين لأنفسهم ؛ لعلمهم بأن ذلك خارج عن حدود السحر ، وأنه أمر إلهى ، يدل على تصديق موسى عليهالسلام. وعبّر عن الخرور بالإلقاء بطريق المشاكلة ؛ لقوله : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) ، فألقى ، فلما خروا سجودا ، (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) ، قال عكرمة : أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء. ه. (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) : عطف بيان ، أو : بدل من (بِرَبِّ الْعالَمِينَ). فدفع توهم إرادة فرعون ؛ لأنه كان يدعى الربوبية ، فأرادوا أن يعزلوه منها. وقيل : إن فرعون لما سمع منهم : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) ، قال : إياى عنيتم؟ قالوا : (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ).
(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أي : بغير إذن لكم ، كما فى قوله تعالى : (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) (١) ، لان أن الإذن منه ممكن أو متوقع ، (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) فتواطأتم على ما فعلتم ؛ مكرا وحيلة. أراد بذلك التلبيس على قومه ؛ لئلا يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حق. ثم هدّدهم بقوله : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) ، يدا من جهة ورجلا من أخرى ، أو : من أجل خلاف ظهر منكم ، (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) قيل : إنه فعل ذلك ، وروى عن ابن عباس وغيره ، وقيل : إنه لم يقدر على ذلك ، لقوله تعالى : (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) (٢).
(قالُوا) أي : السحرة : (لا ضَيْرَ) أي : لا ضرر علينا فى ذلك ، فحذف خبر «لا» ، (إِنَّا إِلى رَبِّنا) الذي عرفناه وواليناه (مُنْقَلِبُونَ) لا إليك ، فيكرم مثوانا ويكفر خطايانا ، أو : لا ضرر علينا فيما توعدتنا به ؛ إذ لا بد لنا من الانقلاب إلى ربنا بالموت ، فلأن يكون فى ذاته وسبب دينه أولى ، قال الورتجبي : لمّا عاينوا مشاهدة الحق سهل عليهم البلاء ، لا سيما أنهم يطمعون أن يصلوا إليه ، بنعت الرضا والغفران. ه. ولذلك قالوا : (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا) أي : لأن كنا (أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) من أهل المشهد ، أو : من أتباع فرعون.
الإشارة : من شأن خواص الملك ألا يفعلوا شيئا إلا بإذن من ملكهم ، ولذلك أنكر فرعون على السحرة المبادرة إلى الإيمان قبل إذنه ، وبه أخذت الصوفية الكبار والفقراء مع أشياخهم ، فلا يفعلون فعلا حتى يستأذنوا فيه الحق تعالى والمشايخ ، وللإذن سر كبير ، لا يفهمه إلا من ذاق سره. وتقدم بقية الإشارة فى سورة الأعراف (٣). والله تعالى أعلم.
__________________
(١) من الآية ١٠٩ من سورة الكهف.
(٢) الآية ٣٥ من سورة القصص.
(٣) راجع إشارة الآيات ١١٧ ـ ١٢٦ من سورة الأعراف.