عليكم ورحمته وأنه تعالى مبالغ فى قبول التوبة ، حكيم فى جميع أفعاله وأحكامه ، التي من جملتها : ما شرع لكم من حكم اللعان ، لكان ما كان ، مما لا يحيط به نطاق العبارة ، من حد الزوج مع الفضيحة ، أو قتل المرأة ، أو غير ذلك من العقوبة. قال القشيري : لبقيتم فى هذه المعضلة ولم تهتدوا إلى الخروج من هذه الحالة المشكلة. ه.
الإشارة : النفس إذا تحقق فناؤها ، وكمل تهذيبها ، رجعت سرا من أسرار الله ، فلا يحل رميها بنقص ؛ لأن سر الله تعالى منزه عن النقائص ، فإن رماها بشىء فليبادر بالرجوع عنه. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر وبال من رمى أزواج النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فى قضية الإفك ، فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١))
قلت : (عصبة) : خبر «إن» ، و (لا تحسبوه) : استئناف.
يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) ؛ وهو أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء ، وقيل : هو البهتان لا تشعر به حتى يفاجئك. والمراد : ما أفك على الصديقة عائشة ـ رضي الله عنها ـ ، وفى لفظ المجيء إشارة إلى أنهم أظهروه من عند أنفسهم من غير أن يكون له أصل.
وذلك أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهنّ خرجت قرعتها استصحبها ، قالت عائشة ـ رضى الله عنها ـ : فأقرع بيننا فى غزوة غزاها ـ قيل : هى غزوة بنى المصطلق ، وتسمى أيضا : غزوة المريسيع ، وفيها أيضا نزل التيم ـ فخرج سهمى ، فخرجت معه صلىاللهعليهوسلم بعد نزول آية الحجاب ، فحملت فى هودج ، فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة ؛ نزلنا منزلا ، ثم نودى بالرحيل ، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأنى أقبلت إلى رحلى ، فلمست صدرى فإذا عقد لى من جزع أظفار (١) قد انقطع ، فرجعت فالتمسته ، فحبسنى التماسه. وأقبل الرّهط الذين كانوا يرحلونى ، فاحتملوا هودجى فرحلوه على بعيري ، وهم يحسبون أنّى فيه ؛ لخفتى ، فلم يستنكروا خفة الهودج ، وذهبوا بالبعير ، ووجدت عقدى بعد ما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس فيه داع ولا مجيب ، فتيممت منزلى ، وظننت أن سيفقدوننى ويعودون فى طلبى ، فبينما أنا جالسة فى منزلى غلبتنى عينى ، فنمت ، وكان صفوان بن المعطّل قد عرّس (٢) من وراء الجيش ، فأدلج فأصبح عند منزلى ، فلما رآنى
__________________
(١) الجزع ـ بالفتح ـ : الخرز اليماني .. انظر النهاية (جزع ١ / ٢٦٩).
(٢) التعريس : نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة .. انظر النهاية (عرس ٣ / ٢٠٦).