يقول الحق جل جلاله : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) أي : قارة ثابتة ، ليستقر عليها الإنسان والدواب ، بإظهار بعضها من الماء ، ودحوها وتسويتها ، حسبما يدور عليه منافعهم. (وَجَعَلَ خِلالَها) ؛ أواسطها (أَنْهاراً) جارية ينتفعون بها ، (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) أي : جبالا ثوابت ، تمنعها أن تميد بأهلها ، ولتتكون فيها المعادن ، وينبع من حضيضها المنابع. (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ) أي : العذب والمالح ، أو : خليجى فارس والروم (حاجِزاً) ؛ برزخا مانعا من المعارجة والمخالطة ، (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) فى الوجود ، أو : فى إبداع هذه البدائع؟ (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) شيئا من الأشياء ، ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك مع كمال ظهوره.
الإشارة : أم من جعل أرض النفوس قرارا ، لتستقر عليها أحكام العبودية ، وتتصرف فيها أقدار الربوبية ، وجعل خلالها أنهارا من علوم الشرائع ، وما يتعلق بعالم الحكمة من الحكم والأحكام ، وجعل لها جبالا من العقل لتعرف صانعها ومدبرها ، وجعل بين بحر الحقيقة والشريعة حاجزا وبرزخا ، وهو نور العقل؟ فما دام العقل صاحيا ميّز بين الحقيقة والشريعة ، فيلزمه التكليف ، ويعطى كل ذى حق حقه. فإذا سكر وغاب نوره سقط التكليف. وقد تشرق على نور قمر العقل شمس العرفان ، فتغطيه مع وجود صحوه ، فيميز بين الحقائق والشرائع ، وتكون عباداته أدبا وشكرا. وبالله التوفيق.
ثم ذكر نوعا آخر ، فقال :
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢))
قلت : الاضطرار : الافتعال من الضرورة ، وهى الحاجة المحوجة إلى اللجأ ، يقال : اضطره إلى كذا ، واسم الفاعل والمفعول : مضطر ، ويختلف التقدير.
يقول الحق جل جلاله : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) ، وهو من نزلت به شدة من شدائد الزمان ، ألجأته إلى الدعاء والتضرع ، كمرض ، أو فقر ، أو نازلة من نوازل الدهر ونوائبه ، أو : المذنب إذا استغفر مبتهلا ، أو : المظلوم إذا دعا ، أو : من رفع يديه ، ولم ير لنفسه حسنة يرجو بها القبول غير التوحيد ، وهو منه على خطر ، فهذه أنواع المضطر. وإجابة دعوته مقيدة بالحديث : «الدّاعى على ثلاث مراتب ، إما أن يعجل له ما طلب ، وإما أن