بصيرتكم وبصركم ؛ لأن نور البصيرة إذا استولى على البصر ، بعد فتح البصيرة ، غطى نوره ، فلا يرى البصر إلا ما تراه البصيرة ؛ من أسرار الذات الأزلية القديمة. فمن بلغ هذا المقام كان خليفة الله فى أرضه ، يملكه الوجود بأسره ، وما ذلك على الله بعزيز.
ثم ذكر نوعا آخر من دلائل توحيده ، فقال :
(أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣))
يقول الحق جل جلاله : (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ليلا ، وبعلامات فى الأرض نهارا؟ أو : أمّن يهديكم إلى سلوك الطريق التي توصلكم إلى مقصدكم ، وأنتم فى ظلمات الليل ، سواء كنتم فى البر أو البحر؟ فلا هادى إلى ذلك إلا الله تعالى. (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ) ، أو بالإفراد. (نَشْراً) (١) بالنون ـ أي : تنشر السحاب إلى الموضع الذي أمر الله بإنزال المطر فيه ، أو (بُشْراً) ـ بالباء ـ أي : مبشرة بالمطر ، (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) ؛ قدّام المطر ، علامة عليه ، (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) يفعل ذلك؟ (تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ). وإظهار الاسم الجليل فى موضع الإضمار للإشعار بعلّية الحكم ، أي : تعالى الله وتنزّه بذاته المنفردة بالألوهية ، المقتضية لكون كل المخلوقات مقهورا تحت قدرته ، عن وجود ما يشركونه به تعالى.
الإشارة : أمّن يهديكم إلى حل ما أشكل عليكم ، وأظلمت منه قلوبكم ، من علم بر الشرائع. وبحر الحقائق ، فيهديكم فى الأول إلى كشف الحق والصواب ، وفى الثاني إلى كشف الغطاء ورفع الحجاب ، أو : فى الأول إلى علم البيان ، وفى الثاني إلى عين العيان بالذوق والوجدان. أو : فى الأول إلى علم اليقين ، وفى الثاني إلى عين اليقين وحق اليقين. ومن يرسل رياح الواردات الإلهية ، بشارة بين يدى رحمته بالوصول إلى حضرته ، وهو التوحيد الخاص. ولذلك ختمه بقوله : (تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) من رؤية وجود السّوى.
__________________
(١) قرأ عاصم «الرياح» بالجمع و «بشرا» بالباء المضمومة مع إسكان الشين ، وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، ويعقوب ، بالجمع ، و «نشرا» بضم النون والشين. وقرأ ابن كثير بإفراد الريح ، وضم النون والشين من «نشرا». راجع الإتحاف (٢ / ٣٣٢).