وفيه تنبيه على أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بالله فى نصرته. وقد تضمنت الآية من أولها ثناء على القرآن ، بنفي ما رموه من كونه أساطير الأولين. ثم وصفه بكونه هدى ورحمة للمؤمنين. ثم توعد الرامين له بحكمه عليهم بما يستحقونه ، ثم أمره بالتوكل عليه فى كفايته أمرهم ومكرهم.
ثم بيّن سبب طعنهم فى القرآن ، بأنهم ليس فيهم قابلية الإدراك ؛ لكونهم موتى صما ، لا حياة لهم ولا سمع استبصار ، قال تعالى : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) ، شبّهوا بالموتى لعدم تأثرهم بما يتلى عليهم من القوارع والزواجر ، (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) أي : الدعوة إلى أمر من الأمور (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) عنك. وتقييد النفي بالإدبار ؛ لتكميل التنبيه وتأكيد النفي ، فإنهم مع صممهم عن الدعاء إلى الحق معرضون عن الداعي ، مولون على أدبارهم. ولا ريب أن الأصم لا يسمع الدعاء ، مع كون الداعي بمقابلة صماخه ، قريبا منه ، فكيف إذا كان خلفه بعيدا منه؟.
(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) هداية موصلة إلى المطلوب ، كما فى قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (١) ؛ فإن الاهتداء منوط بالبصر فى الحس ، وبالبصيرة فى المعنى. ومن فقد هما لا يتصور منه اهتداء ، و «عن» متعلق بهادي ؛ باعتبار تضمنه معنى الصرف ، وإيراد الجملة الاسمية للمبالغة فى نفى الهداية. (إِنْ تُسْمِعُ) أي : ما تسمع سماعا يجدى السامع وينفعه (إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أي : من علم الله أنهم يؤمنون بآياته. (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) ؛ مخلصون ، من قوله : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) (٢) أي : جعله سالما لله خالصا. جعلنا الله ممن أسلم بكليته إليه. آمين.
الإشارة : إذا وقع الاختلاف فى الأحكام الظاهرة ، وهى ما يتعلق بالجوارح الظاهرة ، رجع فيه إلى الكتاب العزيز ، أو السنّة المحمدية ، أو الإجماع ، أو القياس ، وإن وقع الاختلاف فى الأمور القلبية ، وهى ما يتعلق بالعقائد التوحيدية ، من طريق الأذواق أو العلوم ، يرجع فيه إلى أرباب القلوب الصافية ، فإنه لا يتجلى فيها إلا ما هو حق وصواب. فلا يمكن قلع عروق الشكوك والأوهام ، والوساوس من القلوب المسوسة ، إلا بالرجوع إليهم وصحبتهم ، ومن جمع بين الظاهر والباطن ، رجع إليه فى الأمرين معا.
ذكر ابن الصباغ أن الشيخ أبا الحسن الشاذلى رضي الله عنه كان يناظر جماعة من المعتزلة ، ليردهم إلى الحق ، فدخل عليه رجل من القراء ، يقال له : أبو مروان ، فسلّم عليه ، فقال له الشيخ : اقرأ علينا آية من كتاب الله ، فأجرى الله على
__________________
(١) من الآية ٥٦ من سورة القصص.
(٢) من الآية ١١٢ من سورة البقرة.