وأما جزعها وحيرتها ؛ فذلك من الطبع البشرى الجبلّىّ ، اللازم لضعف البشرية ، لا ينجو منه إلا خواص الخواص ، وإنما حل لها ما تأخذه من الدينار فى اليوم ، كما قال السدى : لأنه مال حربى ، لا أنه أجرة إرضاع ولدها.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أي : القبط ، أو الناس جملة ، (لا يَعْلَمُونَ) أن ما وعد الله لا بد من إنجازه ، ولو بعد حين ، وهو داخل تحت علمها ، أي : لتعلم أن وعد الله حق ، ولتعلم أن أكثر الناس لا يعلمون فيرتابون فيه. وفيه التعريض بما فرط منها ؛ حين سمعت بوقوع موسى فى يد فرعون ، فجزعت ، وهذا من الطبع البشرى كما تقدم. وأيضا يجوز أن يكون الوعد منوطا بشروط وأسباب ، قد لا تعرفها ، فلذلك لم ينفك خوفها. والله تعالى أعلم.
الإشارة : وحرمنا على الإنسان المراضع ، من لبان الخمرة الأزلية ، من قبل أن نلقيه بأهلها ، فقالت له العناية السابقة : هل أدلك على أهل بيت الحضرة يكفلونك من رعونات البشرية ، والهفوات القلبية ، وهى الإصرار على المساوئ والذنوب ، ويرضعونك من لبن الخمرة الأزلية. وهم لك ناصحون ، يدلونك على الله ولا يدلونك على غيره. ؛ فإن من دلّك على الله فقد نصحك ، ومن دلّك على العمل فقد أتعبك ، ومن دلك على الدنيا فقد غشك. فرددناه إلى أمه ، وهى الحضرة القدسية ، التي خرج منها ، بمتابعة شهوته وغفلته ، كى تقر عين روحه بمشاهدة حبيبها ، ولا تحزن على فوات شىء ، إذ لم تفقد شيئا ، حيث وجدت الله تعالى ؛ «ماذا فقد من وجدك؟ وما الذي وجد من فقدك؟» (١) ولتعلم أن وعد الله بالفتح على من توجه إليه بالواسطة حق ، ولكن أكثر أهل الغفلة لا يعلمون.
ثم ذكر سبب خروج موسى من مصر ، فقال :
(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧))
قلت : (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ) : حال ، أي : دخل مخفيا.
يقول الحق جل جلاله : (وَلَمَّا بَلَغَ) موسى (أَشُدَّهُ) أي : نهاية القوة وتمام العقل ، جمع شدّة ؛ كنعمة وأنعم. وأول ما قيل فى الأشد : بلوغ النكاح ، وذلك أوله ، وأقصاه : أربع وثلاثون سنة. (وَاسْتَوى) أي : اعتدل
__________________
(١) من مناجاة سيدى ابن عطاء الله السكنندرى. انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي / ص ٤٢.