غريبا ، غير أنه قال فى قصة موسى : (جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) (١) ، وصفه بالصفة المشتقة من اليمن والبركة ، لتكليمه إياه فيه ، وحين نفى عن محمد صلىاللهعليهوسلم أن يكون بذلك الجانب ، قال : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) ، والغربي هو الأيمن. والعدول عنه ، فى حالة النفي ؛ للاحتراس من توهم نفى اليمن عنه صلىاللهعليهوسلم ، وكيف ، وهو صلىاللهعليهوسلم لم يزل بصفة اليمن وآدم بين الماء والطين! فحسن اللفظ أصل فى البلاغة ، ومجانبة الاشتراك الموهم : من فصيح بديع الفصاحة. ه.
أي : وما كنت حاضرا بذلك الموضع ، (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) ، أي : كلمناه ، وقربناه نجيا ، وأوحينا إليه بالرسالة إلى فرعون ، (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) ، أي : من جملة الشاهدين فتخبر بذلك ، ولكن أعلمناك من طريق الوحى ، بعد أن لم يكن لك بذلك شعور ، والمراد : الدلالة على أن إخباره بذلك من قبل الإخبار بالمغيبات التي لا تعرف إلا بالوحى ، ولذلك استدرك عنه بقوله :
(وَلكِنَّا أَنْشَأْنا) بعد موسى (قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) ، أي : طالت أعمارهم ، وفترت النبوة ، وانقطعت الأخبار ، واندرست العلوم ، ووقع التحريف فى كثير منها ، فأرسلناك ؛ مجدّدا لتلك الأخبار ، مبينا ما وقع فيها من التحريف ، وأعطيناك العلم بقصص الأنبياء ، وأوقفناك على قصة موسى بتمامها ، فكأنه قال : وما كنت شاهدا لموسى وما جرى عليه ، ولكنا أوحيناه إليك ، فأخبرت به ، بعد اندراسه.
(وَما كُنْتَ ثاوِياً) ؛ مقيما (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) ، وهم شعيب والمؤمنون به ، (تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) ؛ تقرؤها عليهم ، تعلما منهم ، أو : رسولا إليهم تتلوها عليهم بوحينا ، كما تلوتها على هؤلاء ، يريد : الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه ، (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) لك ، فأخبرناك بها ، وعلّمناك إياها ، فأخبرت هؤلاء بها ، (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) موسى ، أن خذ الكتاب بقوة ، أو ناجيناه فى أيام الميقات ، (وَلكِنْ) علمناك وأرسلناك (رَحْمَةً) أي : للرحمة (مِنْ رَبِّكَ ، لِتُنْذِرَ قَوْماً) جاهلية (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) فى زمان الفترة التي بينك وبين عيسى ، وهى خمسمائة وخمسون سنة ، أو : بينك وبين إسماعيل ، على أن دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل وما حواليهم ، (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ؛ لعل من أرسلت إليه يتعظ ويتذكر ما هو فيه من الضلال ، فينزع ويرجع. وبالله التوفيق.
الإشارة : المراد من هذه الآيات : تحقيق نبوته صلىاللهعليهوسلم ومعرفته الخاصة ، وهى سلّم ، ومعراج إلى معرفة الله تعالى ؛ لأنه الواسطة العظمى ، فمهما عرفته المعرفة الخاصة عرفت الله تعالى ، فمنه صلىاللهعليهوسلم استمدت العلوم كلها ؛ علم
__________________
(١) من الآية ٥٢ من سورة مريم ، والآية ٨٠ من سورة طه.