يقول الحق جل جلاله : (إِنَّكَ) يا محمد (لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) ، أي : لا تقدر أن تدخل فى الإسلام كل من أحببت أن يدخل من قومك وغيرهم ، يعنى : أن خاصية الهداية خاصة بالربوبية ، وخاصية الربوبية لا تكون لمخلوق ، ولو كان أكمل الخلق. (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ؛ يخلق الهداية فى قلب من يشاء ، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ؛ بمن يختار هدايته ويقبلها.
قال الزجاج : أجمع المفسرون أنها نزلت فى أبى طالب ، وذلك أنه قال عند موته : يا معشر بنى هاشم صدقوا محمدا تفلحوا ، فقال صلىاللهعليهوسلم : «يا عمّ تأمرهم بالنّصيحة لأنفسهم ، وتدعها لنفسك!» فقال : ما تريد يا ابن أخى؟ فقال : «أريد منك أن تقول : لا إله إلا الله ، أشهد لك بها عند الله». فقال : يا ابن أخى ؛ أنا قد علمت أنك صادق ، ولكن أكره أن يقال جزع عند الموت. ه. وفى رواية قال : (لو لا أن تعيرنى نساء قريش ، ويقلن : إنه حملنى على ذلك الجزع ، لأقررت بها عينك) (١). وفى لفظ آخر عند البخاري : قال له : «يا عم ، قل : لا إله إلا الله ، أحاجّ لك بها عند الله». فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية : يا أبا طالب ، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال : بل على ملّة عبد المطلب ، فنزلت الآية (٢).
وفيها دليل على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : الهدى هو البيان ، وقد هدى الله الناس أجمع ، ولكنهم لم يهتدوا بسوء اختيارهم ، فدلت الآية على أن وراء البيان ما يسمى هداية ؛ وهو خلق الاهتداء ، وإعطاء التوفيق والقدرة على الاهتداء. وبالله التوفيق.
الإشارة : الآية ليست خاصة بالنبي صلىاللهعليهوسلم ، بل هى عامة لكل من يريد الهداية لأحد من خاصته ، كتب شيخ أشياخنا ، سيدى «أحمد بن عبد الله» ، إلى شيخه ، سيدى «أحمد بن سعيد الهبرى» ؛ يشكو له ابنه ؛ حيث لم ير منه ما تقر به عينه ، فكتب إليه : أخبرنى : ما الذي بنيت فيه؟ دع الدار لبانيها ، إن شاء هدمها وإن شاء بناها. ه. وفى اللباب ـ بعد كلام ـ : قد رضى الله على أقوام فى الأزل ، فاستعملهم فى أسباب الرضا من غير سبب ، وسخط على أقوام فى الأزل ، فاستعملهم فى أسباب السّخط بلا سبب. (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (٣) الآية.
__________________
(١) أخرجه مسلم فى (الإيمان ، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ، ١ / ٥٥ ، ح ٤٢) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(٢) أخرجه البخاري فى (التفسير ـ سورة القصص ، ح ٤٧٧٢) ، ومسلم فى الموضع السابق ذكره (١ ، ٥٤ ، ح ٣٩) ، من حديث سعيد ابن المسيب رضي الله عنه.
(٣) الآية ١٢٥ من سورة الأنعام.