(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي : جهلة ، لا ينفطنون ولا يتفكرون حتى يعلموا أنه لا يهملهم من حفظه ورعايته ، إن أسلموا. وقيل : يتعلق بقوله : (مِنْ لَدُنَّا) ، أي : قليل منهم يتدبرون ، فيعلمون أن ذلك رزق من عند الله ، وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك ، ولو علموا أنه من عند الله ؛ لعلموا أن الخوف والأمن من عند الله ، ولما خافوا التخطف إذا آمنوا به. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ترى كثيرا من الناس ، ممن أراد الله حرمانه من الخصوصية ، يتعلل بهذه العلل الواهية ، يقول : إن دخلنا فى طريق القوم ؛ رفضنا الناس ، وأنكر علينا أقاربنا ، ونخاف الضيعة على أولادنا. يقول تعالى لهم : أو لم أمكّن لأوليائى ، المتوجهين إلى حضرة القدس ، حرما آمنا تجبى لأهلها الأرزاق من كل جانب ، بلا حرص ولا طمع ولا سبب ، ولكن أكثر الناس ؛ جهالا بهذا ، وقفوا مع العوائد ، فحرموا الفوائد ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم خوفهم بقوله :
(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩))
قلت : «كم» : منصوب بأهلكنا. والبطر : الطغيان عند النعمة. قال فى القاموس : البطر ـ محركة : النشاط ، والأشر ، وقلة احتمال النعمة ، والدهش ، والحيرة ، والطغيان بالنعمة ، وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهية ، فعلى الكل : كفرح. ه. و (معيشتها) : نصب بحذف الجار واتصال الفعل ، أي : فى معيشتها. وجملة (لم تسكن) : حال ، والعامل فيها : الإشارة.
يقول الحق جل جلاله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) ، أي : كثيرا أهلكنا من أهل قرية ، كانت حالهم كحالهم فى الأمن والدعة ، وخصب العيش ، من وصفها (بَطِرَتْ) في (مَعِيشَتَها) ، أي : طغت وتجبرت ولم تشكر ، بل قابلتها بالبطر والطغيان. قال القشيري : لم يعرفوا قدر نعمتهم ، ولم يشكروا سلامة أموالهم ، وانتظام أمورهم ، فهاموا فى أودية الكفران على وجوههم ، وخرّوا فى وهدة الطغيان على أذقانهم ، فدمر الله عليهم وخرب ديارهم.
(فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ) خاوية ، أو : فتلك منازلهم باقية الآثار ، يشاهدونها فى الأسفار ؛ كبلاد ثمود ، وقرى لوط ، وقوم شعيب ، وغيرهم ، (لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) من السكنى ، أي : لم يسكنها إلا المسافر ، أو مار