ينال العبد من المكاره يسمو به إلى أعلى الدرجات وأعظم المقامات ، مع ما فى ذلك من تصفية النفس وتهذيبها ، لتتهيأ لإشراق أنوار مقام الإحسان.
روى أنها نزلت فى ناس من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قد جزعوا من أذى المشركين ، وضاقت صدورهم من ذلك ، وربما استنكر بعضهم أن يمكّن الله الكفرة من المؤمنين. فنزلت مسلّية ومعلمة أن هذه هى سيرة الله فى عباده ؛ اختبارا لهم.
قال تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) بأنواع المحن ؛ فمنهم من كان يوضع المنشار على رأسه ، فيفرق فرقتين ، وما يصرفه ذلك عن دينه ، ومنهم من كان يمشط بأمشاط الحديد ، ومنهم من كان يطرح فى النار ، وما يصده ذلك عن دينه. (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ) بذلك الامتحان (الَّذِينَ صَدَقُوا) فى الإيمان بالثبات ، (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) بالرجوع عنه. ومعنى علمه تعالى به ، أي : علم ظهور وتمييز. والمعنى : وليميّزنّ الصادق منهم من الكاذب ، فى الدنيا والآخرة. قال ابن عطاء : يتبيّن صدق العبد من كذبه فى أوقات الرخاء والبلاء ، فمن شكر فى أيام الرخاء ، وصبر فى أيام البلاء ، فهو من الصادقين ، ومن بطر فى أيام الدنيا ، وجزع فى أيام البلاء ، فهو من الكاذبين. ه.
الإشارة : سنّة الله تعالى فى أوليائه : أن يمتحنهم فى البدايات ، فإذا تمكنوا من معرفة الله ، وكمل تهذيبهم ، أعزهم ونصرهم ، وأظهرهم لعباده. ومنهم من يتركهم تحت أستار الخمول ، حتى يلقوه على ذلك ؛ وهم عرائس الملكوت ، ضنّ بهم أن يظهرهم لخلقه. والامتحان يكون على قدر المقام ، وفى الحديث : «أشدّ الناس بلاء : الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على قدر دينه ، فإن كان فى دينه صلبا ، اشتد بلاؤه ، وإن كان فى دينه رقّة ، ابتلى على قدر دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض وما عليه من خطيئة» (١).
وقال صلىاللهعليهوسلم : «أشدّ الناس بلاء فى الدنيا : نبى أو صفى». وقال صلىاللهعليهوسلم : «أشدّ الناس بلاء : الأنبياء ، ثم الصالحون. لقد كان أحدهم يبتلى بالفقر ، حتى ما يجد إلا العباءة يحوّيها فيلبسها ، ويبتلى بالقمل حتى يقتله ، ولأحدهم كان أشدّ فرحا بالبلاء من أحدكم بالعطاء» (٢). من الجامع. والله تعالى أعلم.
__________________
(١) أخرجه الترمذي فى (الزهد ، باب ما جاء فى الصبر على البلاء ، ٤ / ٥٢٠ ، ح ٣٩٨) ، وابن ماجه فى (الفتن ، باب الصبر على البلاء ، ٢ / ١٣٣٤ ، ح ٤٠٢٣) ، والإمام أحمد فى المسند (١ / ١٧٤) من حديث مصعب بن سعد ، بن أبى وقاص رضي الله عنه.
(٢) أخرجه بنحوه ابن ماجه فى الموضع السابق ذكره. (٤ / ١٣٣٥ ، ح ٤٠٢٤) وابن أبى الدنيا فى (المرض والكفارات / ١) ، والحاكم (٤ / ٣٠٧) وصححه ، من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه. وقوله صلىاللهعليهوسلم : «يحوّيها» فى النهاية : التحوية : أن يدير كساء حول سنام البعير ، ثم يركبه ، والاسم : الحويّة. انظر النهاية (حوا ١ / ٤٦٥).