ثم سلّى رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومن أوذى معه ، بما جرى للأنبياء قبله ، فقال :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥))
يقول الحق جل جلاله : (وَ) الله (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) يدعوهم إلى الله ، وهم يؤذونه بالشتم والضرب حتى نصر ، فاصبر كما صبر ، فإن العاقبة للمتقين.
روى أنه عاش ألفا وخمسين سنة ، وقيل : إنه ولد فى حياة آدم ، وآدم يومئذ ابن ألف سنة إلا ستين عاما. وقيل : إلا أربعين. ذكره الفاسى فى الحاشية. والمشهور : أن بينه وبين آدم نحو العشرة آباء. وروى أنه بعث على رأس أربعين ، ولبث فى قومه تسعمائة وخمسين. وعاش بعد الطوفان ستين (١). وعن وهب : أنه عاش فى عمره ألفا وأربعمائة ، وقيل : وستمائة ، فقال له ملك الموت : يا أطول الأنبياء عمرا ؛ كيف وجدت الدنيا؟ قال : كدار لها بابان ، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر. ولم يقل : تسعمائة وخمسين سنة ؛ لأنه ، لو قيل ذلك ، لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره ، وهذا التوهم زائل هنا ، وكأنه قيل : تسعمائة وخمسين كاملة وافية العدد. مع أن ما ذكره الحق أسلس وأعذب لفظا ، ولأن القصة سيقت لذكر ما ابتلى به نوح عليهالسلام من أمته ، وما كابده من طول المصابرة ؛ تسلية لنبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ فكان ذكر الألف أفخم وأوصل إلى الغرض. وجيء ، أولا : بالسّنة ثم بالعام ؛ لأن تكرار لفظ واحد فى كلام واحد حقيق بالاجتناب فى البلاغة.
(فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) ؛ طوفان الماء ، وهو ما طاف وأحاط ، بكثرة وغلبة ، من سيل ، أو ظلام ليل ، أو نحوها ، (وَهُمْ ظالِمُونَ) أنفسهم بالكفر والشرك ، (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) ، وكانوا ثمانية وسبعين نفسا ، نصفهم ذكور ، ونصفهم إناث ، أولاد نوح : سام ، وحام ، ويافث ، ونساؤهم ، ومن آمن من غيرهم ، (وَجَعَلْناها) أي : السفينة ، أو الحادثة ، أو القصة ، (آيَةً) ؛ عبرة وعظة (لِلْعالَمِينَ) يتعظون بها.
الإشارة : كل ما سلّى به الأنبياء يسلّى به الأولياء ، فكل من أوذى فى الله ، أو لحقته شدة من شدائد الزمان ، فليعتبر بمن سلف قبله من الأكابر ، ويتسلى بهم ، ولينظر إلى لطف الله وبره وإحسانه ، فإن لطفه لا ينفعك عن قدره. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه : العارف هو الذي يغرق (٢) إساءته فى إحسان الله إليه ، ويغرق (٣) شدائد الزمان فى الألطاف الجارية من الله عليه ؛ فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون.
__________________
(١) انظر تفسير ابن كثير (٣ / ٤٠٧).
(٢ ، ٣) فى نسخة (يعرف) والمثبت من النسخة الأم.