ذلك ، فلذلك قال تعالى : (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) ، أي : بالله وصفاته وأسمائه ، وبمواقع كلامه وحكمه ، أي : لا يعقل صحتها وحسنها ، ولا يفهم حكمتها ، إلا هم ؛ لأن الأمثال والتشبيهات إنما هى طرق إلى المعاني المستورة ، حتى يبرزها ويصورها للأفهام ، كما صور هذا التشبيه الذي بيّن فيه حال المشرك وحال المؤمن. وعن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه تلا هذه الآية ، وقال : «العالم : من عقل عن الله ، فعمل بطاعته ، واجتنب سخطه» (١) ، ودلّت هذه الآية على فضل العلم وأهله.
(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي : محقا ، لم يخلقها عبثا ، كما لم يضرب الأمثال عبثا ، بل خلقها لحكمة ، وهى أن تكون مساكن عباده ، وعبرة للمعتبرين منهم ، ودلائل على عظم قدرته ، بدليل قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) ؛ لأنهم هم المنتفعون بها. وقيل : بالحق : العدل ، وقيل : بكلامه وقدرته ، وذلك هو الحق الذي خلق به الأشياء. وخص السموات والأرض ؛ لأنها المشهودات. والله تعالى أعلم.
الإشارة : من اعتمد على غير الله ، أو مال بالمحبة إلى شىء سواه ، كان كمن اعتمد على خيط العنكبوت ، فعن قريب يذهب ويفوت ، يا من تعلق بمن يموت ؛ قد تمسّكت بأضعف من خيط العنكبوت.
تنبيه : الأشياء الحسية جعل الله فيها القوى والضعيف ، والعزيز والذليل ، والفقير والغنى ؛ لحكمة ، وأما أسرار المعاني القائمة بها ؛ فكلها قوية عزيزة غنية ، فالأشياء ، بهذا الاعتبار ـ أعنى : النظر لحسها ومعناها ـ كلها قوية فى ضعفها ، عزيزة فى ذلها ، غنية فى فقرها. ولذلك تجد الحق تعالى يدفع بأضعف شىء أقوى شىء ، وينصر بأذل شىء على أقوى شىء. روى أنه لما نزل قوله تعالى : (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) ؛ شكى العنكبوت إلى الله تعالى ، وقال : ربّ خلقتنى ضعيفا ، ووصفتني بالإهانة والضعف ، فأوحى الله تعالى إليه : انكسر قلبك من قولنا ، ونحن عند المنكسرة قلوبهم من أجلنا ، وقد صددنا بنسجك الضعيف صناديد قريش ، وأغنينا محمدا عن كل ركن كثيف ، فقال : يا رب حسبى أن خلقت فى ذلى عزتى ، وفى إهانتي قوتى. ه. ذكره فى اللباب.
ثم أمره بالاشتغال بالتلاوة والصلاة ؛ تسلية وغيبة عمن آذاه ، فقال :
(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥))
__________________
(١) قال المناوى فى الفتح السماوي (٢ / ٨٩٦) : «رواه داود بن المحبر فى كتاب العقل ، ومن طريقه الحارث بن أبى أسامة فى مسنده ، والثعلبي ، والواحدي ، والبغوي ـ فى التفسير (٦ / ٢٤٣) ـ من حديث جابر. وأورده ابن الجوزي فى الموضوعات ، وكتاب العقل ، لداود ، كله موضوع ، وانظر أيضا : تنزيه الشريعة ، لابن عراق (١ / ٢١٤).