يقول الحق جل جلاله : (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) ؛ تنعّما بشهود أسرار معانيه ، وبشهود المتكلم به ، فتغيب عن كل ما سواه ، واستكشافا لحقائقه ، فإن القارئ المتأمل قد ينكشف له بالتكرار ما لم ينكشف له أول ما قرع سمعه. وقد كان من السلف من يبقى فى السورة يكررها أياما ، وفى الآية يرددها ليلة وأكثر ، كلما رددها ظهر له معان أخر.
(وَأَقِمِ الصَّلاةَ) أي : دم على إقامتها ، بإتقانها ؛ فعلا وحضورا وخشوعا ، (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) ؛ الفعلة القبيحة ؛ كالزنى ، والشرب ، ونحوهما ، (وَالْمُنْكَرِ) ، وهو ما ينكره الشرع والعقل. ولا شك أن الصلاة ، إذا صحبها الخشوع والهيبة فى الباطن ، والإتقان فى الظاهر ، نهت صاحبها عن المنكر ، لا محالة ، وإلا فلا.
روى أن فتى من الأنصار كان يصلى مع رسول الله الصلوات ، ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه ، فوصف حاله له صلىاللهعليهوسلم فقال : «إن صلاته تنهاه» ، فلم يلبث أن تاب. ه (١).
وأما من كان يصليها فلم تنهه ؛ فهو دليل عدم قبولها ، ففى الحديث : «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا» (٢) رواه الطبراني. وقال الحسن : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فليست بصلاة ، وهى وبال عليه. وقال ابن عوف : إن الصلاة تنهى ؛ إذا كنت فيها فأنت فى معروف وطاعة ، وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر. ه. فخص النهى بكونه مادام فيها ، وعليه حمله المحلّى.
قال المحشى : يعنى : أن من شأنها ذلك ، وإن لم يحصل ذلك فلا تخرج عن كونها صلاة ، كما أن من شأن الإيمان التوكل ، وإن قدر أن أحدا من المؤمنين لا يتوكل ؛ فلا يخرج ذلك عن الإيمان. وقيل : الصلاة الحقيقة : ما تكون لصاحبها ناهية عن ذلك ، وإن لم ينته فالصلاة ناهية على معنى : ورود الزواجر على قلبه ، ولكنه أصر ولم يطع. [ويقال : بل الصلاة الحقيقة ما تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ، فإن كان] (٣) ، وإلا فصورة الصلاة ، لا حقيقتها. انظر القشيري.
__________________
(١) قال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (ص ١٢٨) : «لم أجده» ، وأخرج الإمام أحمد فى المسند (٢ / ٤٤٧) ، والبزار (كشف الأستار ١ / ٣٤٦) عن أبى هريرة : (جاء رجل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : إن فلانا يصلى بالليل ، فإذا أصبح سرق ، فقال : «إن صلاته ستنهاه».
(٢) أخرجه الطبري فى التفسير (٢٠ / ١٥٥) عن ابن عباس وابن مسعود موقوفا ، وعزاه فى الدر المنثور (٥ / ٢٧٩) للطبرانى ، وابن أبى حاتم ، عن ابن عباس مرفوعا. وانظر : الكافي الشاف (ص ١٢٧).
(٣) المثبت بين المعكوفتين من لطائف الإشارات للقشيرى (٣ / ٩٩). وهو ضرورى.