الاستقامة» (١) ، ليس كل من ثبت تخصيصه كمل تخليصه (٢). وقد تظهر الكرامات فى البدايات وتخفى فى النهايات ، والكرامة العظمى هى الاستقامة وكشف الحجاب بين الله وعبده حتى يشاهده عيانا ، ويذهب عنه الأوهام والشكوك ، وأما غير هذا فقد يكون استدراجا لمن يقف معه. والله تعالى أعلم.
ولمّا لم تظهر آية كما اقترحوا ، استعجلوا العذاب ، استهزاء ، كما قال تعالى :
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥))
يقول الحق جل جلاله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) ، كقولهم : أمطر علينا حجارة من السماء ، (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) المضروب لعذاب كل قوم ، أو : القيامة ، أو : يوم بدر ، أو : وقت فنائهم بأجلهم. والمعنى : ولو لا أجل قد سمّاه الله وعيّنه فى اللوح المحفوظ ، (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) عاجلا. والحكمة تقتضى تأخيره إلى ذلك الأجل المسمى ، (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ) العذاب فى الأجل المسمى (بَغْتَةً) : فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بإتيانه.
(يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي : لتحيط بهم ، أو : هى كالمحيطة بهم ، لإحاطة أسبابها بهم من الكفر والمعاصي. واللام للعهد ، على وضع الظاهر موضع المضمر ؛ للدلالة على موجب الإحاطة ، وهو الكفر ، أو الجنس ، فيدخل المخاطبون دخولا أوليا. وتكرير استعجالهم ؛ لاختلاف ما يترتب على كل واحد ، فرتب على الأول حكمة تأخيره ، وعلى الثاني تهديدهم وزجرهم عنه.
ثم قال تعالى : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) ، هذا وقت إحاطتها بهم ، أي : تحيط من جميع جوانبهم ، كقوله : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ) (٣). (وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : باشروا جزاء أعمالكم.
الإشارة : ما قيل فى حق من استعجل العذاب من الأنبياء ، يقال فى حق من استعجله من الأولياء ، بحيث يؤذيهم ويقول : ليظهروا ما عندهم ، فهذا حمق كبير ، ولا بد أن يلحقه وبال ذلك ، عاجلا ، أو آجلا ، إما ظاهرا
__________________
(١) حكمة عطائية. انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص ٢٧ ، حكمة ١٧٨).
(٢) انظر الحكم (ص ٢٦ حكمة ١١١).
(٣) من الآية ١٦ من سورة الزمر.