يقول الحق جل جلاله : (وَقالُوا) أي : كفار قريش : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ) (١) (مِنْ رَبِّهِ) تدل على صدقه ، مثل ناقة صالح ، وعصا موسى ، ومائدة عيسى ، ونحو ذلك. وقرأ نافع وابن عامر وحفص : بالجمع ؛ «آيات» ، كثيرة ، (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) ، ينزل منها ما شاء متى شاء ، ولست أملك منها شيئا ، (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ؛ إنما كلفت بالإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات ، وليس من شأنى أن أقول : أنزل على آية كذا دون آية كذا ، مع علمى أن المراد من الآيات ثبوت الدلالة على نبوتى ، والآيات كلها فى حكم آية واحدة فى ذلك. (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) ، أي : أو لم يكفهم إنزال آية مغنية عن سائر الآيات ، إن كانوا طالبين للحق ، غير متعنتين ، وهو هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم فى كل زمان ومكان ، فلا يزال معهم آية ثابتة ، لا تزول ولا تنقطع ، كما انقطع غيره من الآيات ، وفى ذلك يقول البوصيرى :
دامت لدينا ؛ ففاقت كلّ معجزة |
|
من النّبيّين ؛ إذ جاءت ولم تدم |
(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : فى هذه الآية الموجودة فى كل زمان إلى آخر الدهر ، (لَرَحْمَةً) ؛ لنعمة عظيمة ، (وَذِكْرى) ؛ وتذكرة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) دون المتعنتين. قال يحيى بن جعدة : إن ناسا من المسلمين أتوا النبي صلىاللهعليهوسلم بكتب قد كتبوها ، فيها بعض ما يقول اليهود ، فألقاها ، وقال : كفى بها حماقة ، أو ضلالة قوم ، أن يرغبوا عما جاء به نبيهم ، فنزل : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ...) إلخ (٢).
(قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) أي : شاهدا بصدق ما أدعيه من الرسالة وإنزال القرآن علىّ ، وتكذيبكم ، (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، فهو مطلع على أمرى وأمركم ، وعالم بحقي وباطلكم ، فلا يخفى عليه شىء. (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) ، وهو ما يعبد من دون الله ، (وَكَفَرُوا بِاللهِ) وبآياته منكم (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) ؛ المغبونون فى صفقتهم ، حيث اشتروا الكفر المؤدى إلى النيران ، بالإيمان المؤدى إلى الخلود فى الجنان. روى أن كعب بن الأشرف وأصحابه من اليهود قالوا : من يشهد لك بأنك رسول الله؟ فنزل : (قُلْ كَفى ...) إلخ.
الإشارة : اقتراح الآيات والكرامات كله جهل وحمق ؛ إذ ليس بيد النبي أو الولي شىء من ذلك ، وإنما هو مأمور بالوعظ والدلالة على الله ، والدعاء إليه ، والكرامة لا تدلّ على كمال صاحبها ، «ربما رزق الكرامة من لم تكمل له
__________________
(١) قرأ ابن كثير ، وأبو بكر ، وهمزة ، والكسائي «آية» بالتوحيد على إرادة الجنس ، وقرأ الباقون بالجمع. انظر الإتحاف (٢ / ٣٥١).
(٢) أخرجه الدارمي فى (المقدمة ، باب من لم ير كتابة الحديث ١ / ١٣٤ ، ح ٤٧٨) ، وأبو داود فى المراسيل (باب ما جاء فى العلم) ، وابن جرير فى التفسير (٢١ / ٧) من حديث يحيى بن جعدة ، مرسلا.