الثانية واوا. ولم يقل : لهى الحياة ؛ لما فى بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب. وفى المصباح : الحيوان : مبالغة فى الحياة ، كما قيل : للموت الكثير : موتان. ه. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) حقيقة الدارين ؛ لما اختاروا اللهو الفاني على الحيوان الباقي.
(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) ، هو مرتب على محذوف ، دل عليه ما وصفهم به قبل ، والتقدير : هم على ما هم عليه من الشرك والعناد ، وإذا ركبوا فى الفلك (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ، أي : كائنين فى صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين ، حيث لا يذكرون إلا الله ، ولا يدعون معه إلها آخر ، (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ) ، وأمنوا من الغرق ، (إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) ، أي : عادوا إلى حال الشرك ، (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) من النعمة ، (وَلِيَتَمَتَّعُوا) باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادهم عليها. واللام فيهما : إما لام كى ، أي : يعودون إلى شركهم ؛ ليكونوا به كافرين بنعمة النجاة ، قاصدين التمتع بها والتلذذ ، لا غير ، على خلاف عادة المؤمنين المخلصين ، فإنهم يشكرون نعمة الله إذا أنجاهم ، ويجعلون نعمة النجاة ذريعة إلى توحيده وطاعته ، لا إلى التلذذ والتمتع. أو : لام الأمر ، على وجه التهديد ، كقوله : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (١) ، ويقويه : قراءة من سكّن الثانية (٢) ، أي : ليكفروا وليتمتعوا (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) تدبيرهم عند تدميرهم.
الإشارة : الدنيا عند أهل الجد والاجتهاد جد ، يتوصلون فيها إلى معرفة الحق ، ويترقون منها إلى أسرار ومعارف لا يحصرها عقل ؛ ولا يحيط بها نقل ، لأن فى هذه الدار : عرفه من عرفه ، وجهله من جهله. والترقي عند العارفين فيها أكثر ؛ لأنه يسير بين جلاله وجماله ، وهناك ليس إلا الجمال ، والترقي بين الضدين أعظم ، فإذا مات بقي يترقى فى أنوار الجمال على قدر ما أدرك هنا. والله أعلم.
فتحصل أن الدنيا فى حق أهل الغفلة لعب ولهو ؛ لأنها شغلتهم وغرتهم بزخارفها عن معرفة الله والوصول إليه ، ولذلك حذّر منها صلىاللهعليهوسلم ، فقد قال فى بعض خطبه : «أيها الناس ، لا تكونوا ممن خدعته العاجلة ، وغرته الأمنية ، واستهوته الخدعة ، فركن إلى دار سريعة الزوال ، وشيكة الانتقال ؛ إذ لن يبقى من دنياكم هذه فى جنب ما مضى إلا كإناخة راكب ، أو درّ حالب ، فعلام تعرجون؟ وما تنتظرون؟ فكأنكم ، والله ، بما قد أصبحتم فيه من الدنيا ، كأن لم يكن ، وما تصيرون إليه من الآخرة ، لم يزل ، فخذوا فى الأهبة لأزوف النقلة ، وأعدوا الزاد لقرب الرحلة ، واعلموا أن كل امرئ على ما قدّم قادم ، وعلى ما خلّف نادم». وفى حق أهل الجد جد وحق ؛ لأنها مزرعة للآخرة ، ومتجر من أسواق الله ، فيها ربحهم وغنيمتهم. وبالله التوفيق.
__________________
(١) من الآية ٢٩ من سورة الكهف.
(٢) قرأ قالون وابن كثير وحمزة والكسائي (وليتمتعوا) بسكون اللام ، على أنها للأمر ، وقرأ الباقون بكسرها ، إما للأمر ، أو لام كى ، والأصل فى كل الكسر. انظر الإتحاف (٢ / ٣٥٣) والبحر المحيط (٧ / ١٥٥).