وذلك (فِي بِضْعِ سِنِينَ) ، وهو ما بين الثلاث إلى العشر. قال النسفي : قيل : احتربت الروم [وفارس] (١) ، بين أذرعات وبصرى ، فغلبت فارس الروم ، والملك بفارس ، يومئذ ، كسرى «أبرويز» ، فبلغ الخبر مكة ، فشقّ ذلك على رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين ؛ لأنّ فارس مجوس ؛ لا كتاب لهم ، والروم أهل كتاب ، وفرح المشركون [وشمتوا] (٢) ، وقالوا : أنتم والنصارى أهل الكتاب ، ونحن وفارس أمّيّون ، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ، ولنظهرنّ نحن عليكم ، فنزلت الآية. فقال أبو بكر : والله ليظهرنّ الروم على فارس بعد بضع سنين ، فقال له أبىّ بن خلف : كذبت ، فناحبه ـ أي : قامره ـ على عشر قلائص من كل واحد منهما ، وجعل ثلاث سنين ، فأخبر أبو بكر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «زد فى الخطر وأبعد فى الأجل» ، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين ، ومات أبىّ من جرح رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم أحد ، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية ، أو : يوم بدر ، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبىّ ، فقال عليه الصلاة والسلام ـ : «تصدّق به» (٣).
وهذه آية بينة على صحة نبوته ، وأن القرآن من عند الله ؛ لأنها إنباء عن علم الغيب. وكان ذلك قبل تحريم القمار ، [عن] (٤) قتادة. ومذهب أبى حنيفة ومحمد ـ رضى الله عنهما ـ : أن العقود الفاسدة ؛ كعقد الربا وغيره ، جائز فى دار الحرب بين المسلمين والكفار ، واحتجا بهذه القصة. ه. زاد البيضاوي : وأجيب بأنه كان قبل تحريم القمار. ه. وقرئ : «غلبت» ؛ بالفتح ، و «سيغلبون» بالضم ، ومعناه : أن الروم غلبوا على ريف الشام ، وسيغلبهم المسلمون ، وقد غزاهم المسلمون فى السنة التاسعة من نزولها ، وفتحوا بعض بلادهم ، وعلى هذا يكون إضافة الغلب إلى الفاعل.
(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي : من قبل كل شىء ، ومن بعد كل شىء. أو : من قبل الغلبة وبعدها ، كأنه قيل : من قبل كونهم غالبين ـ وقبله : هو وقت كونهم مغلوبين ـ ومن بعد كونهم مغلوبين ـ وهو وقت كونهم غالبين ، يعنى : أن كونهم مغلوبين أولا ، وغالبين آخرا ، ليس إلا بأمر الله وقضائه. (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) (٥). (وَيَوْمَئِذٍ) أي : ويوم تغلب الروم فارس ، ويحل ما وعده الله من غلبتهم ، (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) ، وتغلب من له كتاب على من لا كتاب له ، وغيظ من شمت بهم من أهل مكة.
__________________
(١) ما بين المعقوفتين ليس فى الأصول ، وأثبته من تفسير النسفي.
(٢) فى الأصول : [شتموا].
(٣) أخرجه بنحوه ابن جرير (٢١ / ١٧ ـ ١٨) عن عكرمة ، وجاءت القصة بسياقات وروايات متعددة. أخرجها أحمد (١ / ٢٧٦ ـ ٣٠٤) ، والترمذي فى (تفسير سورة الروم ، ٥ / ٣٢١ ح ٣١٩٣ ـ ٣١٩٤) ، وابن جرير (٢١ / ١٦ ـ ١٨) ، والطبراني فى الكبير (١٢ / ٢٩ ح ١٢٣٧٧) والحاكم (٢ / ٤١٠) ، وانظر الدر المنثور (٥ / ٢٨٩ ـ ٢٩٢).
(٤) فى الأصول [قال] ، والمثبت من تفسير النسفي.
(٥) من الآية ١٤٠ من سورة آل عمران.