شتّان بين عبد : صباحه مفتتح بعبادته ، ومساؤه مختتم بطاعته ، وبين عبد : صباحه مفتتح بمشاهدته ، ورواحه مختتم بعزيز رؤيته. قلت : الأول من عامة الأبرار ، والثاني من خاصة العارفين الكبار ، وبقي مقام الغافلين ، وهو : من كان صباحه مفتتح بهم نفسه ، ومساؤه مختتم برؤية حسه ، ثم ذكر احتمال الصلوات الخمس فى الآية ، كما تقدم ـ ثم قال : وأراد الحق من أوليائه أن يجددوا العبودية فى اليوم والليلة خمس مرات ، فيقف على بساط المناجاة ، ويستدرك مافاته بين الصلاتين من صوارف الزلات. ه.
وقوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) يخرج الذاكر من الغافل ، والغافل من الذاكر ، والعارف من الجاهل ، والجاهل من العارف ، ويحيى أرض النفوس باليقظة والمعرفة ، بعد موتها بالغفلة والجهل ، وكذلك تخرجون من قبوركم على مامتم عليه ، من معرفة أو جهل ، من يقظة أو غفلة ، يموت المرء على ما عاش عليه ، ويبعث على ما مات عليه. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر دلائل البعث والخروج ، فقال :
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١))
يقول الحق جل جلاله : (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على قدرته ، الشاملة للبعث وغيره ، أو : ومن علامات ربوبيته : (أَنْ خَلَقَكُمْ) أي : أباكم (مِنْ تُرابٍ) ؛ لأن أصل الإنشاء منه ، (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) أي : ثم فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين فى الأرض ، آدم وذريته. (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) ؛ لأن حواء خلقت من ضلع آدم ، والنساء بعدها خلقن من أصلاب الرجال. أو : من شكل أنفسكم وجنسها ، لا من جنس آخر ، وذلك لما بين الاثنين ـ إذ كانا من جنس واحد ـ من الألفة والمودة والسكون ، وما بين الجنسين المختلفين من التنافر. ويقال سكن إليه : إذا مال إليه. (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) أي : جعل بينكم التوادد والتراحم بسبب الزواج.
وعن الحسن : المودة كناية عن الجماع ، والرحمة هى الولد. وقيل : المودّة للشابة الجميلة ، والرحمة للعجوز ، وقيل : المودة والرحمة من الله ، والفرك من الشيطان ـ أي : البغض من الجانبين. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ؛ فيعلمون ما فى ذلك من الحكم ، وأن قوام الدنيا بوجود التناسل.