قلت : (حنيفا) : حال من (الدين) ، أو : من الأمور ، وهو ضمير (أقم) ، و (فطرة) : منصوب على الإغراء.
يقول الحق جل جلاله ، لنبيه صلىاللهعليهوسلم ، أو : لكل سامع : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) أي : قوّم وجهك له ، غير ملتفت عنه ؛ يمينا ولا شمالا. وهو تمثيل لإقباله على الدين بكلّيته ، واستقامته عليه ، واهتمامه بأسبابه ؛ فإنّ من اهتم بالشيء توجه إليه بوجهه ، وسدّد إليه نظره ، (حَنِيفاً) ؛ أي : مائلا عن كل ما سواه من الأديان ، (فِطْرَتَ اللهِ) ؛ أي : الزموا فطرة الله. والفطرة : الخلقة : ألا ترى إلى قوله : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ)؟ فالأرواح ، حين تركيبها فى الأشباح ، كانت قابلة للتوحيد ، مهيّأة له ، بل عالمة به ؛ بدليل إقرارها به فى عالم الذر ، حتى لو تركوا لما اختاروا عليه دينا آخر ، ومن غوى فإنما غوى منهم بإغواء شياطين الإنس والجن. وفى حديث قدسى : «كلّ عبادى خلقت حنيفا ، فاجتالتهم الشّياطين عن دينهم ، وأمروهم أن يشركوا بي غيرى» (١) ، وفى الصحيح : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينصرّانه أو يمجّسانه» (٢)
قال الزجّاج : معناه : أن الله تعالى فطر الخلق على الإيمان به ، على ما جاء فى الحديث : «إن الله عزوجل أخرج من صلب آدم ذريته كالذرّ ، وأشهدهم على أنفسهم بأنه خالقهم ، فقالوا : بلى» (٣) ، وكل مولود فهو من تلك الذرية التي شهدت بأن الله تعالى ربّها وخالقها. ه. قال ابن عطية : الذي يعتمد عليه فى تفسير هذه اللفظة : أنها الخلقة والهيئة فى نفس الطفل ، التي هى مهيئة لمعرفة الله والإيمان به ، الذي على الإعداد له فطر البشر ، لكن تعرض لهم العوارض ؛ على حسب ما جرى به القدر ، ولا يلزم من الإعداد وجعله على حالة قابلة للتوحيد ألا يساعده القدر ، كما فى قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٤) ، أي : خلقهم معدين لذلك ، فأمر من ساعده القدر ، وصرف عن ذلك من لم يوفّق لما خلق له. ه.
فقوله فى الحديث : «كلّ مولود يولد على الفطرة» أي : على القابلية والصلاحية للتوحيد ، ثم منهم من يتمحض لذلك ، كما سبق فى القدر ، ومنهم من لم يوفق لذلك ، بل يخذل ويصرف عنه ؛ لما سبق عليه من الشقاء. وقال فى المشارق : أي : يخلق سالما من الكفر ، متهيئا لقبول الصلاح والهدى ، ثم أبواه يحملانه ، بعد ، على ما سبق له فى الكتاب. ه. قال ابن عطية : وذكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هى كثيرة. ثم قال : وقد فطر الله
__________________
(١) أخرجه بنحوه ، مطولا ، مسلم فى (الجنة وصفه نعيمها ، باب الصفات التي يعرف بها ، فى الدنيا ، أهل الجنة وأهل النار ٤ / ٢١٩٧ ، ح ٢٨٦٥) من حديث عياض المجاشعي. ولفظه : «إنى خلقت عبادى حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم. الحديث.
(٢) أخرجه البخاري فى (القدر ، باب الله أعلم بما كانوا عاملين ح ٦٥٩٩) ، ومسلم فى (القدر ، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة ، ٤ / ٢٠٤٧ ، ح ٢٦٥٨) بزيادة فى آخره ، من حديث أبى هريرة ـ رضى الله عنه.
(٣) أخرجه أحمد فى المسند (١ / ٢٧٢) وقال فى مجمع الزوائد (٧ / ٢٥) : رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح.
(٤) الآية ٥٦ من سورة الذاريات.