ثم ذكر ضدهم بقوله : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا) ؛ القرآن (الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً) ؛ سجدوا لله ؛ تواضعا وخشوعا ، وشكروا على ما رزقهم من الإسلام ، (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي : نزّهوا الله عما لا يليق به ، وأثنوا عليه ؛ حامدين له ، (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن الإيمان والسجود له. جعلنا الله منهم بمنّه ، آمين.
الإشارة : أهل الفرق من أهل الحجاب ، يتوفاهم ملك الموت ، وأهل الجمع مع الله من أهل العيان ؛ يتولى قبض أرواحهم ذو الجلال الإكرام ؛ كما قيل في الأخفياء من الأولياء ؛ الذين اختص الله تعالى بعلمهم ـ أنه يتولى قبض أرواحهم بيده ، فتطيب أجسادهم به ، فلا يعدوا عليها الثرى ، حتى يبعثوا بها ، مشرقة بنور البقاء المجعول فيهم ، بالرجوع إليه من الفناء ، فيكون بقلوبهم بقاء الأبد مع الباقي الأحد عزوجل. وقد ورد فى الخبر : «من واظب على قراءة آية الكرسي ، دبر كل صلاة ، كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال الإكرام». يعنى : من تدبر معناها. والمراد بذلك خطفتها بالتجلى ، واستغراقها فى الشهود ، وغيبتها عن الغير فى ذلك الوقت الهائل ، فيغيب عن الواسطة فى شهود الموسوط ، مع وجود الواسطة ؛ لعموم الآية. والله تعالى أعلم.
قال القشيري : لو لا غفلة القلوب لما أحال قبض أرواحهم على ملك الموت ؛ لأنّ ملك الموت لا أثر منه فى أحد ، وما يحصل فى التوفّى فمن خصائص قدرة الحق ، ولكنهم غفلوا عن شهود حقائق الربّ ، فخاطبهم على قدر أفهامهم ، وعلّق بالأغيار قلوبهم. وكلّ يخاطبه بما يحتمل على قدر قوته وضعفه. ه. وقال فى قوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ..) الآية : ملكتهم الدهشة وغلبتهم الحجة ، فاعترفوا ، حين لا عذر ، واعترفوا ، حين لا اعتراف. ه.
قوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ..). قال القشيري : لو شاء سهّل سبيل الاستدلال ، وأدام التوفيق لكلّ أحد ، ولكن تعلّقت المشيئة بإغواء قوم ، وأردنا أن يكون للنار قطان ، كما يكون للجنة سكان ، لما علمنا يوم خلقناهما أنه ينزلهما قوم وقوم. فمن المحال أن نريد ارتفاع معلومنا ، إذ لو لم يقع ، ولم يحصل ؛ لم يكن علما. فإذا لا أكون إلها. ومن المحال أن أريد ذلك. ويقال : من يتسلّط عليه من يحبه ؛ لم يجد فى ملكه ما يكرهه. يا مسكين أفنيت عمرك فى النكد والعناء ، وأمضيت أيامك فى الجهد والرجاء ، غيّرت صفتك ، وأكثرت مجاهدتك ، فما تفعل فيما مضى ، كيف تبدله؟ وما تصنع فى مشيئتى ، وبأى وسع تردّها؟ وأنشدوا :
شكا إليك ما وجد |
|
من خانه فيك الجلد |
حيران ، لو شئت ، اهتدى |
|
ظمآن ، لو شئت ، ورد. (١). ه. |
__________________
(١) البيتان لأبى هبة الله بن المنجم ، كما فى يتيمة الدهر (٣ / ٣٨٩).