(وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) ، قال النسفي : وقدّم رسول الله صلىاللهعليهوسلم على نوح ومن بعده ؛ لأن هذا العطف لبيان فضيلة هؤلاء ؛ لأنهم أولو العزم ، وأصحاب الشرائع ، فلمّا كان نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم أفضل هؤلاء قدّم عليهم ، ولو لا ذلك لقدّم من قدّمه زمانه. ه. (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) ؛ وثيقا. وأعاد ذكر الميثاق ؛ لانضمام الوصف إليه.
وإنما فعلنا ذلك (لِيَسْئَلَ) الله (الصَّادِقِينَ) أي : الأنبياء (عَنْ صِدْقِهِمْ) ؛ عما قالوه لقومهم ، وهل بلغوا ما كلفهم به. وفيه تبكيت للكفار ، كقوله : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (١) ، أو : ليسأل المصدّقين للأنبياء عن تصديقهم : هل كان بإخلاص أم لا؟ ؛ لأن من قال للصادق : صدقت ؛ كان صادقا فى قوله. أو : ليسأل الأنبياء : ما الذي أجابتهم أممهم؟ وهو كقوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) (٢) ، (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ) بالرسل (عَذاباً أَلِيماً) ، وهو عطف على «أخذنا» ؛ لأن المعنى : أن الله تعالى أخذ على الأنبياء العهد بالدعوة إلى دينه ؛ لأجل إثابة المؤمنين ، وأعدّ للكافرين عذابا أليما. أو : على ما دلّ عليه : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ) ، كأنه قال : فأثاب المؤمنين ، وأعدّ للكافرين عذابا أليما.
الإشارة : كما أخذ الله الميثاق على الأنبياء والرسل ؛ أخذ الميثاق على العلماء والأولياء. أما العلماء ؛ فعلى تبيين الشرائع وتغيير المناكر ، وألا تأخذهم فى الله لومة لائم ، وأما أخذه على الأولياء ؛ فعلى تذكير العباد وإرشادهم إلى معرفة الله ، وتربية من تعلق بهم ، وسياسة الخلق ، ودلالتهم على الحق ، فمن قصر من الفريقين استحق العتاب. قال القشيري : فلكلّ من الأولياء والأكابر حال ، على ما يؤهلهم له ؛ قال صلىاللهعليهوسلم : «لقد كان فى الأمم محدّثون ، وإن يكن فى أمتى فعمر» ، وغير عمر مشارك لعمر فى خواص كثيرة ، وذلك سر بينهم وبين ربّهم.
ثم قال : قوله تعالى : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) ؛ سؤال تشريف لا تعنيف ، وإيجاب لا عتاب. والصدق : ألا يكون فى أحوالك شوب ، ولا فى اعتقادك ريب ، ولا فى عملك عيب ، ويقال : من أمارات الصدق فى المعاملة : وجود الإخلاص من غير ملاحظة ، وفى الأحوال : تصفيتها [من غير مداخلة الحجاب] (٣) ، وفى القول : سلامته من المعاريض ، [فيما بينك وبين نفسك] (٤). وفيما بينك وبين الناس : تباعد من التلبيس والتدليس ، وفيما
__________________
(١) الآية ٦ من سورة الأعراف.
(٢) متفق عليه ، أخرجه البخاري فى (فضائل الصحابة ، باب : مناقب عمر ، ح ٣٦٨٩) ومسلم فى (فضائل الصحابة ، باب : من فضائل عمر ٤ / ٨١٦٤ ، ح ٢٣٩٨).
(٣) فى القشيري [من غير مداخلة إعجاب].
(٤) ما بين المعقوفتين ليس فى الأصول ، وأثبته من القشيري ، وهو ضرورى يقتضيه السياق.