وقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ). النذير على قسمين : نذير من وبال الذنوب ، ونذير من وبال العيوب. فوبال الذنوب : العذاب ، ووبال العيوب : الحجاب ، فمن تطهر من الذنوب استوجب نعيم الجنان ، ومن تطهر من العيوب استوجب لذيذ الشهود والعيان. فالنذير الأول عالم بأحكام الله ، والثاني عارف بالله ، الأول مقتصد ، والثاني سابق ، ولا يخلو الدهر منهما ، حتى يأتى أمر الله ، فالشريعة باقية بقيام العلماء ، والطريقة والحقيقة قائمتان بقيام الأولياء العارفين بالله ، أهل التربية النبوية ، بالاصطلاح ، والهمة ، والحال. ومن قال خلاف هذا فقد قال بالمحال.
ثم سلّى نبيه ؛ لأنه لمّا أنذر قومه قابلوه بالتكذيب ، فقال :
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦))
يقول الحق جل جلاله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) أي : قومك (فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) رسلهم ، حال كونهم قد (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) ؛ بالمعجزات الواضحة ، (وَبِالزُّبُرِ) ؛ وبالصحف (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي : التوراة ، والإنجيل ، والزبور. ولمّا كانت هذه الأشياء من جنسهم ، أسند المجيء بها إليهم إسنادا مطلقا ، وإن كان بعضها فى جميعهم ، وهى البينات ، وبعضها فى بعضهم ، وهى الزبر والكتاب. ويجوز أن يراد بالزبر والكتاب واحد ، والعطف لتغاير الوصفين ، فكونها زبر باعتبار ما فيها من المواعظ التي تزير القلوب ، وكونها كتبا منيرة ؛ لما فيها من الأحكام والبراهين النيرة. (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : ثم عاقبت الكفرة بأنواع العقاب ، (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) ؛ إنكارى عليهم ، وتعذيبى لهم؟ والاستفهام للتهويل.
الإشارة : تكذيب الصادقين سنّة ماضية. فأولياء كل زمان يتسلون بمن سلف قبلهم ، فقد قتل بعضهم ، وسجن بعضهم ، وأجلى بعضهم ، إلى غير ذلك ؛ زيادة فى مقامهم وترقية بأسرارهم. والله عليم حكيم.
ثم ذكر دلائل قدرته على إهلاك من خالف أمره ، فقال :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ ...)