يقول الحق جل جلاله فى شأن من لم يشأ هدايته إلى صراط مستقيم : (وَيَقُولُونَ) أي : المنافقون (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ) ؛ بألسنتهم ، (وَأَطَعْنا) الله والرسول فى الأمر والنهى ، (ثُمَّ يَتَوَلَّى) عن قبول حكمه (فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي : من بعد ما صدر عنهم من ادعاء الإيمان بالله وبالرسول والطاعة لهما.
قال الحسن : نزلت فى المنافقين ، الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر. وقيل : نزلت فى «بشر» المنافق ، خاصم يهوديا ، فدعاه إلى كعب بن الأشرف ، ودعاه اليهودي إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقال بشر : لا ، إن محمدا يحيف علينا (١) ـ قبح الله سعيه. وقيل : فى المغيرة بن وائل ، خاصم عليّا رضي الله عنه فى أرض وماء ، فأبى أن يتحاكم إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وأيا ما كان فصيغة الجمع تدل على أن للقائل طائفة يساعدونه ويشايعونه فى تلك المقالة.
ثم حكم عليهم بالكفر ، فقال : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي : المخلصين ، والإشارة إلى القائلين : آمنا بالله وبالرسول ، لا إلى الفريق المتولى منهم فقط ، لئلا يلزم نفى الإيمان عنهم فقط ، دون من قبلهم ، بخلاف العكس ، فإن نفى الإيمان عن القائلين يقتضى نفيه عنهم ، على أبلغ وجه وآكده ، وما فيه من معنى البعد ؛ للإشعار ببعد منزلتهم فى الكفر والفساد.
(وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) أي : إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ؛ لأن حكمه حكم الله ، (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) أي : ليحكم الرسول بينهم ؛ لأنه المباشر للحكم حقيقة ، وإن كان ذلك حكم الله فى الحقيقة ؛ لأنه خليفته. وذكر الله تعالى لتفخيم شأنه عليه ، والإيذان بجلالة قدره عنده. فإذا دعوا إلى التحاكم بينهم (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) أي : فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إليه صلىاللهعليهوسلم ؛ لكون الحق عليهم ، وقد علموا أنه صلىاللهعليهوسلم يحكم بالحق على من كان.
(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُ) على غيرهم (يَأْتُوا إِلَيْهِ) ؛ إلى الرسول (مُذْعِنِينَ) ؛ مسرعين فى الطاعة ، طلبا لحقهم ، لا رضا بحكم رسولهم. قال الزجاج : والإذعان : الإسراع مع الطاعة. والمعنى : أنهم ؛ لمعرفتهم أنك لا تحكم إلا بالحق المر والعدل المحض ، يمتنعون من المحاكمة إليك ، إذا ركبهم الحق ، لئلا تنزعه منهم بقضائك عليهم لخصومهم ، وإن ثبت لهم حق على خصم أسرعوا إليك ، ولم يرضوا إلا بحكومتك ، لتأخذ لهم ما وجب لهم على خصمهم.
__________________
(١) انظر تفسير البغوي (٦ / ٥٥) ، وأسباب النزول للواحدى (ص ٣٣٧).