يقول الحق جل جلاله : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) ؛ أولادهم ، الذين يبعثونهم إلى تجاراتهم ، أو صبيانهم ونسائهم الذين يستصحبونهم ؛ فإن الذرّية تقع عليهن ؛ لأنهن مزارعها. وتخصيصهم ؛ لأن استقرارهم فى السفن أشق ، وتماسكهم فيها أعجب ، أو خصهم ؛ لضعفهم عن السفر ، فالنعمة فيهم أظهر. فحملناهم (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) : المملوء ، والظاهر : أن الضمير فى «ذريتهم» للجنس. كأنه قال : ذريات جنسهم ونوعهم. قال ابن عباس وجماعة : يريد بالذريّات المحمولين : أصحاب نوح فى السفينة ، ويريد بقوله : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) : السفن الموجودة فى جنس بنى آدم إلى يوم القيامة ، وإياها عنى بقوله : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ ..) إلخ. وأما إطلاق الذرية على الآباء ، فقال ابن عطية : لا يعرف لغة ، وإنما المراد بالذرية الجنس ، أو حقيقة ما تقدم. وعليه يكون قوله : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) يراد به الإبل ؛ فإنها سفن العرب.
(وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) إذا اركبوا سفن البحر ، (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) ؛ فلا مغيث ، أو : لا مستغيث لهم ، وهو أبلغ ، أي : لم تبق لهم قدرة على الاستغاثة. (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) ؛ ينجون من الموت ، (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) أي : لا ينقذون إلا لرحمة منا ، ولتمتيع بالحياة إلى انقضاء الأجل. فهما مفعولان له. وقال بعضهم : الاستثناء راجع لثلاث جمل : «نغرقهم» ، «فلا صريخ لهم» ، «ولا هم ينقذون».
الإشارة : إذا عامت أفكار العارفين ، فى بحار التوحيد ، وأسرار التفريد ، تلاطمت عليها أمواج الدهش من كبرياء الله ، فإن سبق لها سابق عناية الاعتدال ؛ أوت إلى سفينة الشريعة ، بعد ركوبها فى فلك الحقيقة ، وإليه الإشارة فى قوله : (حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ، وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ). وإن لم تسبق له عناية ، غرق فى بحر الزندقة والإلحاد ، كما قال تعالى : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) من شيخ كامل ، ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين الكمال ، فيعتدل. قال القشيري : الآية إشارة إلى حمل الخلق فى سفينة السلامة ، فى بحار التقدير ، عند تلاطم أمواجها ، بفنون من التغيير والتأثير ، وكم من عبد غرق فى أشغاله ، فى ليله ونهاره ، لا يستريح لحظة فى كدّ أفعاله ، ومقاساة التعب من أعماله ، وجمع ماله ، بنسيان عاقبته ومآله. ثم قال فى قوله تعالى : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) : لو لا صفة جوده وفضله ؛ لحلّ بهم من البلاء ما حلّ بأمثالهم ، لكنه لحسن إفضاله ، حفظهم فى جميع أحوالهم. ه.