كذلك العارف إذا جلس مجلس الفكرة ، وغاب فى الشهود والنظرة ، لا يجول إلا فى عظمة الذات ، وأسرارها ، وبهائها ، وجمالها ، لا يخطر على باله غيرها ، فحديث روحه وسره كله فى الخمرة الأزلية. هذه هى الفكرة الصافية ، والنظرة الشافية ، متعنا الله بها على الدوام. آمين.
ثم ذكر حال من يعوق عن شرب هذه الخمرة ، فقال :
(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١))
يقول الحق جل جلاله : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) أي : من أهل الجنة (إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) فى الدنيا ، قيل : كان شيطانا ، وقيل : من الإنس ، ففيه التحفظ من قرناء السوء ، وقيل : كانا شريكين بثمانية آلاف دينار ، أحدهما : قطروس ، وهو الكافر ، والآخر : يهوذا ، المؤمن ، فكان أحدهما مشغولا بعبادة الله ، وكان الآخر مقبلا على ماله ، فحلّ الشركة مع المؤمن ، وبقي وحده ؛ لتقصير المؤمن فى التجارة ، وجعل الكافر كلما اشترى شيئا من دار ، أو جارية ، أو بستان ، عرضه على المؤمن ، وفخر عليه ، فيمضى المؤمن ، ويتصدق بنحو ذلك ، ليشترى به من الله تعالى فى الجنة. فكان من أمرهما فى الجنة ما قصّه الله تعالى فى هذه الآية (١). قال السهيلي : هما المذكوران فى سورة الكهف بقوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ ..) (٢) إلخ.
(يَقُولُ) أي : قرين السوء ، لقرينه المؤمن فى الدنيا : (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) بالبعث؟ (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) ؛ لمحاسبون ومجزيون بأعمالنا؟ من : الدين ، وهو الجزاء.
__________________
(١) ذكر السيوطي القصة بطولها فى الدر (٥ / ٥١٨ ـ ٥١٩) وعزاها لعبد الرزاق ، وابن المنذر ، عن عطاء الخراسانى ، وأخرجها الطبري (٢٣ / ٥٦) عن فرات بن ثعلبة البهراني. وقد ذكر الشيخ ابن عجيبة ـ رحمهالله تعالى ـ القصة كاملة عند تفسير الآية ٣٢ من سورة الكهف.
(٢) الآية ٣٢ وما بعدها من سورة الكهف.