(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) أي : فلما وجد وبلغ أن يسعى مع أبيه فى أشغاله وحوائجه ، أي : الحدّ الذي يقدر على السعى مع ابنه ، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة. وقيل : سبع سنين. (قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) أي : قيل له فى المنام : اذبح ابنك ، ورؤيا الأنبياء وحي ، كاليقظة. قال الكواشي : لم ير أنه يذبحه فى النوم ، ولكنه أمر فى النوم بذبحه ، بدليل قوله : (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ). وقيل : رأى أنه يعالج ذبحه ، ولم ير إراقة الدم. وقال قتادة : رؤيا الأنبياء حق ، إذا رأوا شيئا فعلوه (١). وفى رؤيا ذلك فى النوم وتحققه إياه حتى عمل بما رأى ، إيذان بأن الأنبياء قد تجوهرت نفوسهم ، فلا مجال للكذب فيما يوحى إليهم ، وفيما يصدر عنهم ، فهم صادقون مصدّقون ، فليس للشيطان عليهم سبيل ، وإيذان بأن من كان فى منامه صادقا كان يقظته أولى بالصدق. ه.
وإنما لم يقل : «رأيت» ؛ لأنه رأى مرة بعد أخرى ، فقد قيل : رأى ليلة التروية كأنّ قائلا يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا ، فلما أصبح روّى فى ذلك من الصباح إلى الرواح ؛ ليعلم أمن الله هذا الحلم ، أم لا ، فسمّى يوم التروية ، فلما أمسى رأى مثل ذلك ، فعرف أنه من الله ، فسمّى يوم عرفة ، ثم رأى مثله فى الليلة الثالثة ، فهم بنحره ، فسمّى يوم النحر (٢).
واختلف من المخاطب المأمور بذبحه ، فقال أهل الكتابين : هو إسحاق ، وبه قال عمر ، وعلىّ ، وابن مسعود ، والعباس ، وابنه عبد الله ، وكعب الأحبار ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، ومسروق ، وعكرمة ، والقاسم بن أبى برّة ، وعطاء ، ومقاتل ، والزهري ، والسدى. قال سعيد بن جبير : أرى إبراهيم ذبح إسحاق فى المنام ، فسار به على البراق مسيرة شهر فى غداة واحدة ، حتى أتى المنحر بمنى ، فلما صرف عنه الذبح ، وأمره أن يذبح الكبش ، وذبحه ، سار به مسيرة شهر فى روحة واحدة ، طويت له الأودية والجبال. ه.
واحتج أهل هذا القول بأنه ليس فى القرآن أن إبراهيم بشّر بولد إلا بإسحاق ، وقال هنا : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ) فتعيّن أنه إسحاق ؛ إذ هو المبشّر به فى غير هذه الآية ، وبأن الذي كان يسعى معه فى حوائجه وأشغاله إنما هو إسحاق ، وأما إسماعيل فإنما كان بمكة غائبا عنه ، ولم يثبت فى الصحيح أن إبراهيم قدم مكة إلا ثلاث مرات وإسماعيل متزوج. وبما روى أن موسى عليهالسلام قال : يا رب ؛ الناس يقولون : إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فبم ذلك؟ فقال : إن إبراهيم لم يعدل بي شيئا قط إلا اختارني ، وإن إسحاق جاد لى بالذبح ، وهو لى بغير ذلك أجود ، وإن يعقوب كلما زدته بلاء زاد لى حسن ظن (٣). وقال يوسف للملك : أترغب أن تأكل معى ، وأنا ـ والله ـ يوسف بن
__________________
(١) عزاه السيوطي فى الدر (٥ / ٥٢٨) لعبد بن حميد.
(٢) انظر تفسير البغوي (٧ / ٤٨).
(٣) أخرجه الطبري فى تفسيره (٢٣ / ٨٢) وعزاه السيوطي فى الدر (٥ / ٥٣٠) لابن أبى شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي فى الشعب ، عن عبد الله بن عمير.