ولمّا قال له : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ، فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) به (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) على الذبح. روى أن إبراهيم قال لابنه : انطلق بنا نقرب قربانا لله تعالى ، فأخذ سكينا وحبلا ، ثم انطلق معه ، حتى إذا ذهب بين الجبال ، قال له الغلام : يا أبت أين قربانك؟ فقال : (يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ ...) الآية ، فقال : يا أبت خذ بناصيتي ، واجلس بين كتفى ، حتى لا أؤذيك إذا أصابتنى الشفرة ، ولا تذبحنى وأنت تنظر لوجهى ؛ لئلا ترحمنى ، واجعل وجهى إلى الأرض. وفى رواية واذبحني وأنا ساجد ، واقرأ على أمي السلام ، وإن رأيت أن تردّ قميصى إلى أمي فافعل ، عسى أن يسليها عنى. قال إبراهيم : نعم العون أنت على أمر الله تعالى. فربطه إبراهيم عليهالسلام ثم جعل يقبله ، وهو يبكى ، والابن يبكى ، حتى استنقعت الدموع تحت خده.
(فَلَمَّا أَسْلَما) أي : انقادا لأمر الله وخضعا. وعن قتادة : أسلم هذا ابنه ، وهذا نفسه. (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) ؛ صرعه على جنبه ، ووضع السكين على حلقه ، فلم تعمل ، ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين ، ونودى :
__________________
فإن قيل : فالبشارة الثانية وقعت على نبوته ، أي : لمّا صبر الأب على ما أمر به ، وأسلم الولد لأمر الله ، جازاه الله على ذلك بأن أعطاه النبوة.
قيل : البشارة وقعت على المجموع ؛ على ذاته ووجوده ، وأن يكون نبيا ، ولهذا نصب «نبيا» على الحال المقدر ، أي : مقدرا نبوته ، فلا يمكن إخراج البشارة أن تقع على الأصل ، ثم تخص بالحال التابعة الجارية مجرى الغفلة ، هذا محال من الكلام ، بل إذا وقعت البشارة على نبوته ، فوقوعها على وجوده أولى وأحرى.
* أن البشارة بإسحاق وقعت مقرونة بولادة يعقوب ، على ما هو الظاهر من قوله : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ، وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) سورة هود / ٧١ ، ولا يتصور أن يبشر بالولد وولد الولد دفعة ، ثم يؤمر بذبح الولد قبل ولادة ولده.
وأيضا : فلا ريب أن الذبيح كان بمكة ، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها ، كما جعل السعى بين الصفا والمروة ، ورمى الجمار ، تذكيرا لشأن إسماعيل وأمه ، وإقامة لذكر الله ، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة ، دون إسحاق وأمه. وكان النحر بمكة من تمام حج البيت ، ولو كان الذبح بالشام ـ كما يزعم أهل الكتاب ـ لكانت القرابين والنحر بالشام ، لا بمكة.
وفى هذا الشأن نقل عن الأصمعى أنه قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح ، فقال : يا أصمعى أين عقلك ، ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة ، وهو الذي بنى البيت مع أبيه ، والمنحر بمكة.
* أما من نقل من أخبار من أن الذبيح هو إسحاق فهو منقول عن أهل الكتاب ، وحال أهل الكتاب ، لا يخفى عل ذوى الألباب ، ونقل ابن القيم فى زاد المعاد (١ / ٧١) عن الشيخ ابن تيمية ـ رحمهماالله ـ قوله : هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب ، مع أنه باطل بنص كتابهم ، فإن فيه : إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره ، وفى لفظ : «وحيده» ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده ، والذي غرّ أصحاب هذا القول أن فى التوراة ، التي بأيديهم : اذبح ابنك إسحاق. وقال : وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم ، لأنها تناقض قوله : (اذبح بكرك ووحيدك) ، ولكن اليهود حسدت بنى إسماعيل على هذا الشرف ، وأحبوا أن يكون لهم ، وأن يسوقوه إليهم ، ويختاروه لأنفسهم دون العرب ، ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله».
للمزيد فى هذه المسألة انظر : مفاتيح الغيب (٣ / ٢٤٧) ـ تفسير ابن كثير (٤ / ١٧ ـ ١٩) زاد المعاد لابن القيم (١ / ٧١ ـ ٧٥) القول الفصيح ، للسيوطى ، ضمن كتاب الحاوي (١ / ٣١٨ ـ ٣٢٢) ـ الإسرائيليات والموضوعات ، للدكتور أبى شهبة (٢٥٢ ـ ٢٦٠).