ولمّا كان كفر من كفر بعد الوعد إنما كان بمنع الزكاة ، قرنه مع الصلاة فى الأمر به فقال : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) ؛ فمن فرّق بينهما فقد كفر ، وكان من الفاسقين. (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما دعاكم إليه وأمركم به ، ومن جملة ما أمر به : طاعة أمرائه وخلفائه ؛ لقوله : «عليكم بسنتى ، وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضّوا عليها بالنواجذ» (١) ، فمن امتنع من دفع الزكاة لخليفته ـ كما فعل أهل الردة ـ فقد كفر ، ومن أداها إليه كما أمره الله فقد استوجب الرحمة ، لقوله : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي : لكى ترحموا ، فإنها من مستجلبات الرحمة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : سنة الله تعالى فى خواصه : أن يسلط عليهم فى بدايتهم الخلق ، فينزل بهم الذل والفقر والخوف من الرجوع عن الطريق ، ثم يعزهم ، ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، ويبدلهم من بعد خوفهم أمنا ، كما قال الشاذلى رضي الله عنه : اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا ... إلخ كلامه.
قال القشيري : وفى الآية إشارة إلى أئمة الدين ، الذين هم أركان السنّة (٢) ودعائم الإسلام ، الناصحون لعباد الله ، الهادون من يسترشد فى الله. ثم قال : فأما حفاظ الدين ؛ فهم الأئمة والعلماء الناصحون لدين الله ، وهم أصناف : قوم هم حفّاظ أخبار الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وحفّاظ القرآن ، وهم بمنزلة الخزنة ، وقوم هم علماء الأصول ، الرادّون على أهل العناد ، وأصحاب الابتداع ، بواضح الأدلة ، وهم بطارقة الإسلام وشجعانه ، وقوم هم الفقهاء المرجوع إليهم فى علوم الشريعة وفى العبادات وكيفية المعاملات ، وهم من الدين بمنزلة الوكلاء والمتصرفين فى الملك ، وآخرون هم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق ، وهم فى الدّين كخواص الملك وأعيان مجلس السلطان وأرباب الأسرار ، الذين لا يبرحون فى عالى مجلس السلطان ، فالدين معمور بهؤلاء على اختلافهم إلى يوم القيامة. ه (٣). وتقدم مثله فى قوله : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ...) إلخ (٤). والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الفريق الثالث ، وهم الكفرة ظاهرا وباطنا ، فقال :
(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧))
__________________
(١) أخرجه ـ بطوله ـ أحمد فى المسند (٤ / ١٢٧) وأبو داود فى (السنة ، باب فى لزوم السنة ٥ / ١٣ ـ ١٤ ح ٤٦٠٧) والترمذي فى (العلم ، باب فى الأخذ بالسنة واجتناب البدع ٥ / ٤٣ ، ح ٢٦٧٦) وابن ماجه فى (المقدمة ، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين ، ١ / ١٦ ح ٤٢) من حديث العرباض بن سارية.
قلت : والنواجذ آخر الأضراس ، واحدها : ناجذ. وأراد بذلك الجد فى لزوم السنة ، فعل من أمسك الشيء بين أضراسه ، وعضّ عليها ، منعا له أن ينتزع.
(٢) فى القشيري : «الملّة».
(٣) بتصرف.
(٤) الآية ١٢٢ من سورة التوبة.