(كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ؛ كبنى إسرائيل ، استخلفهم الله فى مصر والشام ، بعد إهلاك فرعون والجبابرة ، ومن قبلهم من الأمم المؤمنة التي استخلفهم الله فى أرض من أهلكه الله بكفره. كما قال تعالى : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) (١).
(وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ) : عطف على (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) ، داخل معه فى سلك الجواب ، وتأخيره عنه مع كونه أصل الرغائب الموعودة وأعظمها ؛ لأن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل ، فتصدير المواعد بها فى الاستمالة أدخل ، والمعنى : ليجعل دينهم ثابتا متمكنا مقررا لا يتبدل ولا يتغير ، ولا تنسخ أحكامه إلى يوم القيامة. ثم وصفه بقوله : (الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) ، وهو دين الإسلام ، وصفه بالارتضاء ؛ تأليفا ومزيد ترغيب فيه وفضل تثبيت عليه. (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ) بالتشديد والتخفيف من الإبدال ، (مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ) من الأعداء (أَمْناً).
نزلت حيث كان أصحاب رسول صلىاللهعليهوسلم قبل الهجرة عشر سنين ، أو أكثر ، خائفين ، ولمّا هاجروا كانوا بالمدينة يصبحون فى السلاح ويمسون فيه ، حتى قال رجل : ما يأتى علينا يوم نأمن فيه ، ونضع السلاح ، فلما نزلت ، قال عليه الصلاة والسلام : «لا تصبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم فى الملأ العظيم ، محتبيا ، ليس معه حديدة» (٢) ، فأنجز الله وعده ، فأمنوا ، وأظهرهم على جزيرة العرب ، وفتح لهم بلاد المشرق والمغرب ، ومزقوا ملك الأكاسرة ، وملكوا خزائنهم ، واستولوا على الدنيا بحذافيرها. وفيه من الإخبار بالغيب ما لا يخفى. وقيل : الخوف والأمن فى الآخرة.
ثم مدحهم بالإخلاص فقال : (يَعْبُدُونَنِي) وحدي ، (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) أي : حال كونهم موحدين غير مشركين بي شيئا من الأشياء ، شركا جليا ولا خفيا ؛ لرسوخ محبتهم ، فلا يحبون معه غيره ، (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) أي : بعد الوعد الكريم ، كفران النعمة ، أو الرجوع عن الإيمان ، كما فعل أهل الردة ، (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ؛ الكاملون فى الفسق ، حيث كفروا تلك النعمة بعد ظهور عزها وأنوارها ، قيل : أول من كفر هذه النعمة قتلة عثمان رضي الله عنه ؛ فاقتتلوا بعد ما كانوا إخوانا.
والآية أوضح دليل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين ؛ لأن المستخلفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات على ما ينبغى هم الخلفاء ـ رضي الله عنهم ـ.
__________________
(١) من الآية ١٣ من سورة إبراهيم.
(٢) أخرجه الطبري (١٨ / ١٥٩ ـ ١٦٠). وعزاه فى الدر المنثور (٥ / ١٠٠) لعبد بن حميد ، وابن أبى حاتم ، عن أبى العالية. وانظر أسباب النزول للواحدى (٣٣٨).