يقول الحق جل جلاله : (وَاتَّخَذُوا) أي : الكفار المدرجون تحت العالمين المنذرين ، اتخذوا لأنفسهم (مِنْ دُونِهِ) تعالى (آلِهَةً) ؛ أصناما ، يعبدونها ويستعينون بها ، وهم (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) أي : لا يقدرون على خلق شىء من الأشياء ، (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) كسائر المخلوقات. والمعنى : أنهم آثروا على عبادة من هو منفرد بالألوهية والخلق ، والملك والتقدير ، عبادا عجزة ، لا يقدرون على خلق شىء ، وهم مخلوقون ومصورون. (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي : لا يستطيعون لأنفسهم دفع ضر عنها ، ولا جلب نفع لها. وهذا بيان لغاية عجزهم وضعفهم ؛ فإن بعض المخلوقين ربما يملك دفع ضر وجلب نفع فى الجملة ، وهؤلاء لا يقدرون على شىء البتة ، فكيف يملكون نفع من عبدهم ، أو ضرر من لم يعبدهم؟!
(وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً) أي : إماتة (وَلا حَياةً) أي : إحياء (وَلا نُشُوراً) ؛ بعثا بعد الموت ، أي : لا يقدرون على إماتة حى ، ولا نفخ الروح فى ميت ، ولا بعث للحساب والعقاب. والإله يجب أن يكون قادرا على جميع ذلك. وفيه إيذان بغاية جهلهم ، وسخافة عقولهم ، كأنهم غير عارفين بانتفاء ما نفى عن آلهتهم مما ذكر ، مفتقرون إلى التصريح لهم بها. والله تعالى أعلم.
الإشارة : كل من ركن إلى غير الله ، أو مال بمحبته إلى شىء سواه ، فقد اتخذ من دونه إلها يعبده من دون الله. وكل من رفع حاجته إلى غير مولاه ، فقد خاب مطلبه ومسعاه ؛ لأنه تعلق بعاجز ضعيف ، لا يقدر على نفع نفسه ، فكيف ينفع غيره؟ وفى الحكم : «لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك ، فكيف ترفع إلى غيره ما كان هو له واضعا؟! من لا يستطيع أن يرفع حاجته عن نفسه ، فكيف يكون لها عن غيره رافعا؟».
قال بعض الحكماء : من اعتمد على غير الله فهو فى غرور ؛ لأن الغرور ما لا يدوم ، ولا يدوم شىء سواه ، وهو الدائم القديم ، لم يزل ولا يزال ، وعطاؤه وفضله دائمان ، فلا تعتمد إلا على من يدوم عليك منه الفضل والعطاء ، فى كل نفس وحين وأوان وزمان. ه. وقال وهب بن منبه : أوحى الله تعالى إلى داود : يا داود ؛ أما وعزتى وجلالى وعظمتى لا ينتصر بي عبد من عبادى دون خلقى ، أعلم ذلك من نيته ، فتكيده السموات السبع ومن فيهن ، والأرضون السبع ومن فيهن ، إلا جعلت له منهن فرجا ومخرجا. أما وعزتى وجلالى لا يعتصم عبد من عبادى بمخلوق دونى ، أعلم ذلك من نيته ، إلا قطعت أسباب السموات من يده ، وأسخت الأرض من تحته ، ولا أبالى فى أي واد هلك. ه. وبالله التوفيق.
ولما ذكر شأن الفرقان ، ذكر من طعن فيه وفيمن نزل عليه ، فقال :
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى