يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ؛ أنزل عليه جملة ، ومع ذلك كفروا وكذبوا به ، كما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) (١) ، فكذلك هؤلاء ، لو نزل جملة ، كما اقترحوا ، لكفروا وكذّبوا كما كذّب أولئك. (وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) ، فأخاه : مفعول أول لجعل ، و (وزيرا) : مفعول ثان ، أي : جعلنا معه أخاه مقويا ومعينا. والوزير : من يرجع إليه ويتحصّن برأيه ، من الوزر ، وهو الملجأ. والوزارة لا تنافى النبوة ؛ فقد كان يبعث فى الزمن الواحد أنبياء ، ويؤمرون أن يوازر بعضهم بعضا. ، أو : يكون وزيرا أول مرة ورسولا ثانيا.
(فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي : فرعون وقومه. والمراد بالآيات : التسع الظاهرة على يد موس عليهالسلام ، ولم يتصف القوم بالتكذيب عند إرسالها إليهم ضرورة ؛ لتأخير تكذيب الآيات عن إظهارها المتأخر عن إرسالها ، بل إنما وصفوا بذلك عند الحكاية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، بيانا لعلة استحقاقهم ، لما حكى بعده من التدمير. أي : فذهبا إليهم فأرياهم آياتنا كلها ، فكذبوهما تكذيبا مستمرا ، (فَدَمَّرْناهُمْ) إثر ذلك (تَدْمِيراً) عجيبا هائلا ، لا يقادر قدره ، ولا يدرك كنهه. فاقتصر على حاشيتى القصة ؛ اكتفاء بما هو المقصود. انظر أبا السعود.
الإشارة : أعباء الرسالة والولاية لا تحمل ولا تظهر إلا بمعين. قال تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) (٢) ، ولا بد لصاحب الخصوصية من إخوان يستعين بهم على ذكر الله ، ويستظهر بهم على إظهار طريقة الله. فإن وجد ولىّ لا إخوان له ، ولا أولاد ، فلا يكون إلا غالبا عليه القبض ، مائلا لجهة الجذب ، فيقل الانتفاع به ، ولا تحصل التوسعة للولى إلا بكثرة الأصحاب والإخوان ، يعالجهم ويصبر على جفاهم ، حتى يتسع صدره وتتسع معرفته. وبالله التوفيق.
ثم سلّى نبيه بما جرى على الأمم قبله ، فقال :
(وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠))
__________________
(١) من الآية ٤٨ من سورة القصص.
(٢) من الآية ٢ من سورة المائدة.